يشرفني أن أكون معكم هنا، إلى جانب زملاء كبار، في نقابة الصحافيين في مصر، العريقة بتاريخها، والتي تَعاقب على مواقعها القيادية نخبة من أساتذة الصحافة العربية أسعدني زماني فشرفني بالصداقة مع بعضهم وربطتنا رفقة القلم مع جميعهم. ويؤلمني أن نكون هنا للحديث عن أستاذنا صحافي القرن محمد حسنين هيكل وليس معه.
وها نحن نلتقي على ذكراك، يا معلم أجيال من حملة القلم لخدمة أوطانهم وأمتهم عبر هذه المهنة التي كبرت بك ومعك واكتسبت موقعها المميز في خدمة شعبها وأمتها بالحقيقة.
وأصدقك القول إننا وزملائي ندخل القاهرة، اليوم، يجللنا الحزن، وقد كنا نصلها مغتبطين بأننا آتون إليك فيها وإلى بلادنا جميعاً فيك، وأنت الصديق الكبير، و «العارفة» كما كان العرب يصفون جامع المعلومات الشاملة عن الناس والأحوال جميعاً. وكنا نصلها متباهين أو مزهوين بأننا سنجلس معك، فتباشرنا بالأسئلة التي نعرف أنك تعرف أجوبتها ولكنك إنما تدقق معلوماتك معنا وعبرنا. ثم نباشر طرح الأسئلة التي تقلقنا، والتساؤلات التي تفتح الباب للهموم الثقيلة التي تشغل أمتنا في زمن الخيبة وانطفاء هدير الميادين عند عتبة أبواب التغيير وقبيل بزوغ فجر الغد الأفضل.
ولطالما كنتَ كريماً معنا، تفتح لنا باب الوقت، فتحول اللقاء إلى جلسة تفيض بالمعلومات والذكريات التي تعزز الاستنتاجات الراهنة، مع استعادة وقائع تاريخية لها انعكاساتها على الواقع خصوصاً وكنت تدعمها باستشهادات تتبدى حديثاً في الثقافة قبل أن ننتبه إلى أنها تشرح بالتراث أحياناً وبكتب الشهود الموثوقين التي تمدك بالأدلة والبراهين التي تؤكد صحة التحليل أحياناً أخرى. ففي إعادة قراءة الماضي بوثائقه قبل وقائعه ما يفسر الحاضر وينير بعض الطريق إلى المستقبل.
كنت تقوم إلى مكتبتك الغنية فتأتي بكتب مذكرات لقادة كبار أو بمؤلفات لسياسيين دهاة لعبوا أدواراً خطيرة في صياغة أو إعادة صياغة خرائط بلادنا غالباً، وابتدعوا دولها أحياناً، ورسموا لها الحدود تاركين فيها ألغاماً موقوتة ستتفجر ذات يوم فتتسبب في العديد من الحروب بين الأخوة الذين صاروا رعايا لدول شتى ليس أسهل من استعداء بعضهم ضد الآخر، وتجاوز موجبات الأخوة دفاعاً عن الكيان المبتدع، والذي لم يكن له وجود، قبل قرن مثلاً، ولا هو يستحق إشعال حرب ستحرك الغرائز والأطماع، ارتكازاً إلى تاريخ مزوّر وإلى حدود وهمية رسمها الأجنبي خدمة لمصالحه، ثم جعلتها أنظمة الحكم مقدسة خدمة لأغراضها، وأولها السلطة ولو على دولة ليس لها ماض في التاريخ ولن يكون لها دور في المستقبل، على الأرجح، إلا ضرب الهوية الموحدة والمصالح المشتركة، خدمة للأجنبي بعنوان إسرائيل.
يا صحافي القرن،
نفخر بأننا قد أخذنا عنك، على البعد، بقدر اجتهادنا.
أخذنا عنك كاتباً بأسلوب مميز، يجمع بين الوقائع ودلالاتها الراهنة، عبر خريطة مفصلة للحدث بأبطاله وموقعه في الصراع، كما الدولي بانعكاساته المباشرة على الواقع العربي، وصولاً إلى الاستنتاجات باحتمالاتها المختلفة.
وأخذنا عنك عبر إعادتك كتابة تاريخ مرحلة خطيرة من مراحل بحث العرب، بدولهم المختلفة، عما يؤكد فيهم هويتهم الجامعة ومصالحهم المشتركة التي تتجاوز الحدود التي أقامها غالباً الأجنبي، وفق أغراضه، بغض النظر عن وقائع التاريخ وثوابت الجغرافيا.
ولست أبالغ إن أنا اعتبرت أنك قد زودتنا، والأجيال الآتية، بكتب مرجعية تعيد توضيح ما طمس من وقائع صنعت بعض ماضينا القريب وتركت ظلالها على ما قدم إلينا في حاضرنا على أنها وقائع لا يقربها الشك، لا سيما ما يتصل بالصراع العربي ـ الإسرائيلي والحروب المبتورة قبل بلوغها غاياتها الوطنية والقومية برغم اغتسالها بدماء الشهداء.
أيها الأستاذ الذي سيـــحتل موقعه المرجعي في تاريــــخ الصحافة، بل السياسة العربية، داخل مصر وخارجها:
لقد غادرتنا من دون أن تغيب عنا. فأنت باقٍ أمامنا كمثل أعلى للصحافي العربي الذي قدم صورة مشرقة عن الكاتب ـ المؤرخ ـ المحلل ـ المستعين بثقافته الواسعة، قراءة ومشاهدات، محاورات مع الكبار من موقع الباحث عن الحقيقة، والعامل لتوسيع دائرة المعرفة بالأحداث المحورية، بدلالاتها وتداعياتها، بصانعيها وأغراضها، قبل طرح الاستنتاجات والتحذير مما ينبغي الحذر منه في الحاضر والمستقبل.
ولقد تركت الصحافة كمهنة مُكرهاً، ولكنك احتللت الموقع الذي يليق بك كداعية للقضايا المحقة لأمتك، وكمؤرخ لحقبة لعلها الأخطر في تاريخ هذه المنطقة العربية فأبدعت مكتبة ممتازة تحفل بما خفي أو أُخفي عن أهل الأرض، بالتآمر أو بالاستهانة بهم. وليس ما نعيشه الآن من حروب الإخوة واقتتال الأهل وافتراق الطرق بين من يفترض أن تجمعهم الهوية الواحدة والمصالح المشتركة وحلم الغد الأفضل المهدد دائماً بالتحول إلى كابوس إلا نتيجة لعجز الأنظمة عن مواجهة التحديات المفروضة وأخطرها تمتين الوحدة الداخلية وتعزيز رابطة الأخوة بين العرب في مختلف ديارهم لمواجهة العدو الإسرائيلي المعزز بالدعم الدولي المفتوح بعنوانه الأميركي.
أيها الأستاذ الذي ارتفع بمهنة الصحافة إلى الذروة ثم وظف كفاءته في إعادة كتابة صفحات مميزة من تاريخنا الحديث:
أيها الشاهد على الخسارة في فلسطين، وعلى انتصار الإرادة على العدوان الثلاثي، وعلى الاقتراب من الحلم في تحقيق الوحدة العربية، وعلى الهزيمة بسبب الغفلة وعدم المعرفة الدقيقة بقدرات العدو وقوى الدعم الدولي التي تسانده، قبل إقامة الكيان الصهيوني ثم في توطيد الحمايات لهذا الكيان وتعزيز قدراته لتكون أعظم مما يملكه العرب مجتمعين.. هذا إذا اجتمعوا.
تحية لك وقد غادرتنا من دون أن نغادرك.. أيها المثل الأعلى للصحافي العربي بمعارفك وثقافتك وحصيلة تجاربك ومحاوراتك التي تجاوزت السياسيين إلى المفكرين الكبار الذين استضفت في دار «الأهرام» حيث التقى الكبار الذين احتضنت ووفرت المنبر لإبداعهم، وبينهم الأساتذة توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ولويس عوض وصلاح عبد الصبور والحسين فوزي وكثير لا يتسع لذكرهم المجال المتاح.
وأختم بأن أنقل إليك تحيات زملائي في «السفير»، وقد كنت تحرص على «مداهمة» مكاتبها في بيروت، في كل زيارة لك للبنان للاطمئنان إلى نجاحها في مسيرتها لأداء دورها الوطني والقومي.. فتجلس إليهم تشرح لهم حقيقة ما يجري في بلادهم ومن حولها، مستشرفاً معهم آفاق المرحلة المقبلة.
وبعد كل زيارة كان الزملاء يظهرون مزيداً من التواضع في تقدير أهمية ما يعرفون عن الأحداث التي يتابعون تطورها وتداعياتها، مدركين أن أمامهم رحلة طويلة في قلب الصعب لكي يستحقوا القول إنهم قد عاشوا في عصر هيكل.
تحية لك، حيث أنت في عليائك،
حمى الله الصحافة التي تعيش أصعب أزمنتها، في مصر كما في سائر أقطار الوطن العربي الواحد، حيث لا سياسة ولا ميادين حاضنة لأسباب التغيير وجماهيرها.
وإلى اللقاء، أيها المفرد والذي يغني لقب «الأستاذ» عن ذكر اسمه ـ العلم.
كلمة ألقاها رئيس تحرير جريدة «السفير» طلال سلمان في الاحتفال الذي أحيته نقابة الصحافيين في مصر الخميس الماضي احتفالاً بيوبيلها الماسي (75 سنة). وقد خصصت يوماً للاحتفال بالراحل محمد حسنين هيكل.