الحاضنة العربية لسوريا هي حاجة سورية بالتأكيد، لكنها حاجة عربية يفترضها الأمن الإقليمي العربي، وأخطر ما تتعرض له سوريا هو رسم خارطة نفوذ تقوم على أن ثمة خطرا إرهابيا خرج من الأكثرية.الاستراتيجية الإيرانية تقوم على فرض وقائع عسكرية وديمغرافية في سوريا
لا شك أن المنظمات الإرهابية كانت من أهم وسائل نفوذ وتمدد قوى إقليمية ودولية في المنطقة العربية، وهي إلى جانب كونها منظمات معروفة المنشأ والتوجه، فإن التنظيم البارز أي تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” كان الأبرز بعد تنظيم القاعدة في شق الطرق أمام هذا النفوذ الخارجي، وتنظيم داعش شكل، إلى حدّ بعيد، أداة أمكن استخدامها من قبل السلطات المحلية لمواجهة انتفاضات شعبية سعت إلى تغيير أنظمة القهر والاستبداد كما كان الحال ولا يزال في سوريا، ولقمع المطالب الشعبية المحقة في مواجهة الفساد والتمييز والتهميش كما جرى في العراق.
وفي نظرة سريعة نلاحظ أن الحرب على الإرهاب كما استثمرتها دول إقليمية برعاية وإشراف غربي، أميركي وروسي، كشفت عن تنامي نفوذ الدول الإقليمية في المنطقة العربية، فضلاً عن الدولية، في مقابل تراجع كبير وفاضح للنظام الإقليمي العربي، حيث تبدو جامعة الدول العربية الغائب الأكبر عن المسرح الذي يفترض أن تكون فيه الفاعل.
ما يثير القلق السوري والعربي عموماً اليوم، ليس بقاء نظام الرئيس السوري بشار الأسد أو نهايته، وهو بطبيعة الحال انتهى لكونه فقد كل قدراته في إدارة الدولة وسلطاتها، وباتت وظيفته الأخيرة هي البقاء بالقوة في انتظار ما سترسو عليه بورصة المشهد الإقليمي والدولي في سوريا، وما سيرسو عليه الصراع على المكاسب في هذا البلد. قد تكون هذه الصورة راسخة في أذهان الكثيرين على مستوى الشعب السوري، بل على امتداد شعوب الدول العربية، لكن ما يثير القلق كما أسلفنا، هو ما يتصل بمستقبل الكيان السوري، ومدى انعكاس المطامح الإقليمية والدولية، في المحاولات المستمرة لاستثمار طبيعة المكونات المجتمعية السورية وتنوعها في رسم جغرافية النفوذ الإقليمي.
روسيا التي تقدم نفسها باعتبارها الطرف المنتصر على الإرهاب والراعي لمشروع سوريا الجديدة، ولو بعد أن ساهمت في تدميرها، تتقاطع في هذه المهمة مع إيران، وإن من باب الطرف المقرر والمدرك أن النفوذ الإيراني الميداني في هذا البلد هو أمر ضروري وملح، طالما أن أيّ بديل آخر غير متوفر بشروط توفير المرجعية الروسية على هذا البلد، وتأمين مستلزمات السيطرة المادية والمعنوية، فلا الإدارة الأميركية في وارد طمأنة روسيا إلى مستقبلها في سوريا، ولا هي مطمئنة إلى قوتها الذاتية التي باتت أمام مخاطر الاستنزاف وكلفة بقاء الجنود الروس غير المحددة والمستمرة دون تحديد أي موعد لوقف الحرب أو إعلان نهايتها.
فيما الولايات المتحدة تستمر في تثبيت قواعدها العسكرية في الشرق وعلى الحدود العراقية، وتشير الوقائع الميدانية إلى أنّ سيطرتها على مناطق الثروة النفطية في سوريا دائمة، فيما تتأرجح علاقاتها مع التنظيمات الكردية في الشمال السوري، بين التبني الكامل لها وبين مراعاة بعض الحسابات التركية ومصالحها.
تركيا التي نجحت في الالتفاف على الكماشة الأميركية والروسية، بالانسجام مع متطلبات النفوذ الروسي في سوريا، وبإيجاد قنوات تفاهم مع واشنطن حول شروطها في شمال سوريا، وباستثمار حاجة إيران لها في مرحلة العقوبات الأميركية، حققت فرصاً جديدة لعدم خروجها من سوريا
لا تبدو إيران في وارد الخروج من سوريا، فهي التي دفعت الكثير من المال والدماء في سبيل الذود عن نظام بشار الأسد، ولمنع الثورة السورية من تحقيق التغيير، لذا فإن العقوبات الأميركية المتشددة لن تدفع إيران إلى الخروج من سوريا، فالاستراتيجية الإيرانية تقوم في هذا البلد على فرض وقائع عسكرية وديمغرافية تجعل من وجودها في هذا البلد مستنداً إلى قواعد سياسية واجتماعية يصعب تغييرها، أو ترفع من كلفة إخراجها من هذا البلد.
فالقيادة الإيرانية التي وفرت كل الشروط التي طلبتها إسرائيل في سوريا وبرعاية روسية، لا سيما تلك المتصلة بأمن إسرائيل وأنجزت معها تفاهماً سلساً في الجنوب السوري بإشراف روسي وغطاء أميركي، بدأت بالتفرغ لمهمة أخرى كانت بدأتها وتعمل اليوم على استكمالها، وهي المهمة التي تقوم على بناء علاقات وثيقة تقوم على نظام مصالح مادية وأمنية مع بيئات اجتماعية سورية متنوعة.
وتركز إيران نشاطها على نسج ما أمكن من علاقات مع الأقليات سواء منها المسيحية على تنوعها أو الأكراد وغيرهم من المجموعات الإثنية التي ساهم تنظيم داعش في إثارة مخاوفها الوجودية، وعززها سلوك متبع في السياسات الدولية والإقليمية يولي اهتماما خاصاً لموضوع الأقليات لأسباب سياسية بالدرجة الأولى. كما عمدت إيران إلى إنشاء ميليشيات سورية في العديد من مناطق سيطرتها، وقد أمكن لها الوصول إلى عدد من العشائر الذين انخرطوا في أطر ميليشياوية تمولها وتسلحها إيران.
في المقابل فإن تركيا التي نجحت في الالتفاف على الكماشة الأميركية والروسية، بالانسجام مع متطلبات النفوذ الروسي في سوريا، وبإيجاد قنوات تفاهم مع واشنطن حول شروطها في شمال سوريا، وباستثمار حاجة إيران لها في مرحلة العقوبات الأميركية، حققت فرصاً جديدة لعدم خروجها من سوريا، وهذه النقاط الاستراتيجية التي حققتها أنقرة داخل سوريا، انتقلت من طموح “الدولة السلطانية” إلى الدولة الإقليمية الملتزمة بقواعد السيطرة الأميركية والروسية في هذا البلد العربي.
على أن ما يجب التنبه له هو أنّ التخلي العربي عن هذا البلد أتاح للقوى الإقليمية الطامحة لتثبيت نفوذها وشرعنته في سوريا، ونقصد تحديدا تركيا وإيران وإسرائيل، أن تتمادى في هذا السلوك، أي أنّ الدور العربي غائب حتى من باب وضع الخارطة السورية بكل ما فيها أمام المسؤولية العربية، وإشعار المجتمع السوري بكل مكوناته أن ثمة قوى عربية محورية معنية بما يجري في سوريا وليست غائبة عنه، إذ لا يمكن تقبل أن تكون قوة تركيا أو إيران وحتى إسرائيل متقدمة بأشواط على القوة العربية سواء كانت النظام الإقليمي العربي أو أي دولة عربية.
الحاضنة العربية لسوريا هي حاجة سورية بالتأكيد، لكنها بالضرورة حاجة عربية جامعة تفترضها أبجدية الأمن الإقليمي العربي، وأخطر ما تتعرض له سوريا اليوم هو إعادة رسم خارطة نفوذ ديمغرافي، يقوم على أن ثمة خطرا إرهابيا اسمه تنظيم داعش خرج من بطن الأكثرية في سوريا، وأن الأقليات لن تجد حضنا لها إلا من خلال إعادة صوغ وجودها على قاعدة أنها مكونات في خطر وتحتاج إلى حماية وتبنّ خارجي، وهذا واقع خطير طالما أن الشعب السوري بكل مكوناته شاهد على مأساة التخلي العربي عنه وتركه نهباً للذئاب الإقليمية والدولية.