النارسة

النارسة!

النارسة!

 العرب اليوم -

النارسة

حسن البطل

لم أكرع جرعة ماء. لم أشخ. لم يكن في بيتنا «طاسة رعبة» فضية مزخرفة بآيات قرآنية. كنت في الخامسة ورأيت شيئاً مرعباً. لم أقل لأمي وأبي عما سمعت ورأيت. نمت حتى بحذائي.

رأيت في حلمي كابوساً لا أنساه، على كثرة ما رأيت في عمري من كوابيس نسيتها. أصبحت عطشان ولم أقو على الوقوف!

أمي تركت لجن العجين، وقالت: «اسم الله عليك».

كنت محموماً، وأخذني أبي إلى عيادة «الأونروا». عيادة من ثلاثة أركان: حكيم نسيت اسمه. بواب العيادة «أبو جاد» وهذه النارسة صبحية العرجاء.

كنا نقول «الحكيم» لا الطبيب ولا الدكتور. كنا نقول «النارسة» لا الممرضة. كان الحكيم طبيباً عاماً لكل مرض وعرض وعلّه. كانت شغلة النارسة صبحية العرجاء هي «ضرب الأبر» في عضلة العجيزة. ابر بنسلين ومشتقاته ستروبتوماسين مثلاً.

كل محموم كان علاجه إبرة، ربما من ستروماسين. كل فقير دم علاجه أبرة هي خلاصة طبية للكبد.
قال أبي للحكيم: ولدي محموم، ولم يقل أنه سمع ورأى شيئاً مرعباً قبل النوم، ورأى في النوم كابوساً مرعباً.
سأكبر وأعرف أن الحمّى جاءت من اجتفاف. عليك أن تشرب ماء وتبول وتحكي لوالديك ما الذي أرعبك، لا أن تنام تواً بحذائك.

سأكبر، وأعرف أن جرعات يومية زائدة من أحد مشتقات البنسلين لها أثر جانبي لاحق على عصب السمع. لم تعد قوة سمعي رهيفة بحيث أسمع «ضرطة النملة» كما كان أبي يقول ضاحكاً!
يموت عصب السمع بشلل تدريجي. الأمر يشبه شاشة تخطيط القلب قبل الموت .. أي خيطا أبيض بعد الدقة الأخيرة ثم يهمد القلب ويحضر الموت في نهاية خط أبيض يلي خطوطاً متعرجة لخفقات القلب.

سأكبر وأعرف المثل الشعبي «فالج لا تعالج» بعد جلطة في الدماغ، لكن الفالج ضرب عصب السمع لا عصب الساق والذراع.

رويداً رويداً، على مدى عشرين سنة، دون طنين في الأذن ودون وجع او صملاخ سيتمدد خط عصب السمع أفقياً كما يتمدد خط خفقات القلب!

هل هذا كان «إهمالاً طبيّاً»؟ كلا كان نتيجة خطأ الحكيم في التشخيص السريع، وخطأ الوالد في الشرح للحكيم سبب الحمّى، وخطأ الولد المحموم أنه لم يكرع كأس ماء ويشخشخ، ويروي لوالديه رعباً رآه.

ماذا رأيت؟ ماذا سمعت في ليلة شتائية لما كنت في الخامسة؟ كان البيت بعد خرابة. كانت الخرابة جنب حمام شعبي. كان جانب الحمام الشعبي معصرة. كان صديق الطفولة يحكي له عن الشياطين والعفاريت. كانت الشياطين تسكن في المعصرة وفي الخرابة .. وخاصة في هذا «الأمّيم» الذي هو بيت النار في الحمام الشعبي .. نار جهنم كما نتخيلها!

في ضوء فانوس كهربائي خافت على درب البيت أمام الخرابة، انعكس الضوء على عيني قطة تحرّك رأسها، وكان الانعكاس مع مواء عجيب وكان ضوء الانعكاس يشبه حزمة ضوء من لعبة «الليزر». تجمدّت رعباً، ثم سمعت عابري سبيل يحكون عن حادث دهس «الترين» لفتاة، وكيف تدحرج رأسها. سأكبر وأعرف أن رأسها تدحرج لأن الشارع ينحدر، وليس لأن الرأس كان ينطنط في كيس من الخيش كما قال عابرا السبيل.

ليس الحقّ على الحكيم الذي وصف إبرة البنسلين علاجاً للحمى. ليس الحقّ على أبي الذي لم أشرح له ما رأيت قبل النوم وفي الليل من رعب ومن كابوس.

ليس السبب أن «طاسة الرعبة» الفضية ذات الآيات القرآنية ليست في بيوت اللاجئين. لم أشرب ولم أشخّ!

كنت طفلاً لا أعرف ما هو الاجتفاف، ولماذا عليك ان تشرب الماء وتشخ ولا تنام فوراً إن كنت مرعوباً.

ليس الحق على النارسة صبحية التي حقنت عجيزتي أياماً طوالاً بجرعات مضاعفة من البنسلين. كل ما في الأمر مضاعفات من وعي الطفولة بالخرافات، ومن جهل الطفولة بعلاج حالة «الرعبة» ومن جهل النارسة بتأثير جرعات مشتقات البنسلين على عصب السمع.

arabstoday

GMT 02:18 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

قرن البولندي العظيم (الجزء 1)

GMT 02:14 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

الوفاء غائب ولغة التخوين والحقد حاضرة

GMT 02:10 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

حين ينهار كلّ شيء في عالم الميليشيا

GMT 02:07 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

العُلا... لقطة من القرن الثامن

GMT 02:04 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

الرفاق حائرون... خصوم ترمب العرب

GMT 02:01 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

شبحا كافكا وأورويل في بريطانيا

GMT 01:58 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

التوسع والتعربد

GMT 01:55 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

أميركا دونالد ترمب

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

النارسة النارسة



إلهام شاهين تتألق بإطلالة فرعونية مستوحاه من فستان الكاهنة "كاروماما"

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 20:00 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار مختلفة لجعل غرفة المعيشة مميَّزة وأكثر راحة
 العرب اليوم - أفكار مختلفة لجعل غرفة المعيشة مميَّزة وأكثر راحة

GMT 02:44 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

القسام تعلن قصف مدينة سديروت جنوب إسرائيل برشقة صاروخية
 العرب اليوم - القسام تعلن قصف مدينة سديروت جنوب إسرائيل برشقة صاروخية

GMT 12:03 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

روجينا تكشف عن تفاصيل مسلسلها الجديد رمضان 2025
 العرب اليوم - روجينا تكشف عن تفاصيل مسلسلها الجديد رمضان 2025

GMT 01:14 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

العنف فى المدارس !

GMT 05:45 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

علاج جيني مُبتكر يعيد السمع والرؤية لمرضى متلازمة آشر 1F

GMT 12:31 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

3 خطوات سهلة لتخفيف التوتر وزيادة السعادة في 10 دقائق فقط

GMT 02:07 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

العُلا... لقطة من القرن الثامن

GMT 08:22 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتل جندي إسرائيلي من لواء كفير برصاص قناص شمال قطاع غزة

GMT 07:19 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

زلزال بقوة 4.7 درجات يضرب أفغانستان في ساعة مبكرة من اليوم

GMT 13:00 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

مستوطنون يحتلون مسجداً ويبثون منه أغنيات عبرية

GMT 06:09 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

بايدن يحذّر من حقبة "تغيير سياسي كبير" بعد فوز ترامب

GMT 13:36 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

"تسلا" تستدعي 2400 شاحنة من "Cybertruck" بسبب مشاكل تقنية

GMT 22:39 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

سقوط قنبلتين ضوئيتين في ساحة منزل نتنياهو

GMT 16:54 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد فهمي ضيف شرف سينما 2024 بـ 3 أفلام
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab