أن تقرأ "عشرة أيام هزّت العالم" لمؤلفه الأميركي جون ريد غير أن تعيش عشرة أيام هزّتني ومنظمتي وشعبي وعالمي العربي. مؤرّخ إنكليزي قال عن الكتاب "أفضل سردية كتبت عن أي ثورة أخرى في العالم": الثورة البلشفية. دفن ريد في جدار الكرملين.
من 21 آب إلى الأول من أيلول 1982 انتهت قوافل الخروج الفلسطيني المشهدي من بيروت، وكان طاقم "فلسطين الثورة" اليومية، بعض من ركب السفينة البحرية الأخيرة.
قبل يوم واحد من بدء قوافل الخروج، مات زميلنا الشاعر والكاتب علي فودة، بعد يومين من إصابته بقذيفة.
محرّر وموزّع جريدة "الرصيف" حظي بما لم يحظَ به أحد من القتلى. في صحوة الموت قرأ ما كتبه الآخرون عن نعيه ورثائه، وأصدروا لاستشهاده ملصقاً.. مات سعيداً ضاحكاً، ولم يقرأ سطوراً قليلة في نعيه بعد رحيله. آخر رواياته "أعواد المشانق" صدرت بعد رحيله، وأوّل دواوينه الشعرية "فلسطيني كحدّ السيف" صدرت 1969.
قرأتم كتبه أم لا، استمعتم إلى إحدى قصائد: "إني اخترتك يا وطني" بصوت وموسيقى مارسيل خليفة أم لا؟ جاءنا "الصعلوك" و"الغجري" و"عروة بن الورد الفلسطيني" ومايا كوفسكي الفلسطيني" محرّراً نزقاً في أسرة "فلسطين الثورة"، وغادرنا غاضباً ومتمرّداً إلى جريدة "الرصيف" مع رسمي أبو علي، وطاقم من المثقفين المقاتلين العرب، وأسّسوا نشرة ثقافية ـ سياسية ـ ناقدة وساخرة، كانت قبل الاجتياح علامة فارقة في صحافة المنظمة والصحافة اللبنانية. بعد الغزو صارت تعبوية ملتزمة ومقاتلة.
الرصيف هو رصيف "مقهى أم علي" حيث كان تحريرها في زاوية هي أخطر تقاطع أمني ـ ثقافي ـ مؤسّساتي، على بعد 100 متر من مستديرة وجسر الكولا حدود "جمهورية الفاكهاني".
لي مع علي مفارقات لطائف وطرائف خلال عمله القصير محرراً ثقافياً، ثم منشقّاً عن الإعلام الفصائلي، وأخيراً التقيته إبّان حرب الاجتياح في مطبعة بيروت الجديدة، حيث كانت تطبع جريدة "فلسطين الثورة" و"الرصيف" و"المعركة".
آنذاك كانت الجرائد الفلسطينية واللبنانية تُصفّ على شكل لفافات "كوشيه" قبل إخراجها الفني، الذي حصل أن فودة اكتشف فراغاً صغيراً في الصفحة الأولى من عدد قيد الصدور لـ "الرصيف". سألني أن أملأه بقلمي السيّال، ففعلت بصياغة خبر ساخر.. لحق بي وقال: "والله يا حسن أنك فلسطيني" مع عبوة من "الكولا" الباردة.
كان هذا اعتذاره من سخريته منّي، مارّاً بمقهى الرصيف، حاملاً "كوشيه" مجلة "فلسطين الثورة" الأسبوعية، قائلاً: "احرث وازرع لبطرس" أي لرئيس تحريرنا أحمد عبد الرحمن، الذي اختلف معه علي واختلف عنا، ونقل طاولته إلى طابق آخر.
كان علي يكتب مادّته تاركاً نقطتين أو ثلاثا في فقرات مادّته. قلت له: هذه ليست صحافة وأسلوب روايات وكتابة إحسان عبد القدُّوس، ويوسف السِّباعي. نهض واقفاً وصارخاً بجملة عربية فصيحة مشكولة، أواخرها: "قد أقول لك اذهب إلى الجحيم". أنا "سخسخت" من الضحك.. وهو هدأ.
لسببٍ ما، صارت طاولته المهجورة طاولتي. اكتشفتُ في أدراجها كروزاً مفتوحاً من دخان "مارلبورو" وعلبة مفتوحة. أقول له تعال وخذها أنا لا أُدخّن هذا النوع، يقول لي: هل بقي شيء منها. أعدتها إليه في "مقهى الرصيف".. دهش وقال: في شراكة الموت والرصاص والبنادق والأقلام.. كيف لا توجد شراكة في علب الدخان؟
من نزوات وطرائف علي أن جلساءه المقاتلين المثقفين في المقهى كانوا يشوشون على جلسته مع صديقته، وحصل أن غضب وذهب مهتاجاً وشاكياً إلى "أبو الهول" أحد قادة ثلاثة أجهزة أمنية مع جهاز "أبو إياد" وجهاز قوة الـ 17.
ما وصفه عرفات: "ديمقراطية غابة البنادق" كان، أيضاً، ديمقراطية صحافة الفصائل. كان متمرّدو "الرصيف" مقاتلين مثقفين ينالون مخصّصاتهم المالية، وتطبع جريدتهم في مطبعة الكرمل (مطبعة أبو شامخ) التي قال عنها درويش: "ارحموا عمال مطبعة الكرمل" لكثرة ما تصدر من ملصقات النعي بسقوط الشهداء، ثم سقطت المطبعة ركاماً بقصف جوي مع أول يوم من حرب الاجتياح، واستشهد العدد الأخير 224 من "فلسطين الثورة" الأسبوعية.
الغريب ـ غير الغريب، أن صحف المقاومة (المعركة ـ الرصيف ـ فلسطين الثورة) بقيت منتظمة الصدور، بينما تقطّعت صحف لبنانية عريقة. فقط، احتجبت "فلسطين الثورة" اليومية عن الصدور عدداً واحداً في 4 آب، الذي كان يوماً جهنمياً بالقصف، الذي كان يوم ميلاد عرفات وبيغن للمصادفة، فطلب أبو عمار طباعة عددين يوميين في يوم واحد!
في مجرى الحرب الأهلية، فقدت "فلسطين الثورة" شهداء منهم سكرتير تحريرها (سوري ـ طلال رحمة،) أو مدير تحريرها (فلسطيني ـ رشاد عبد الحافظ) ونائب رئيس تحريرها (عراقي ـ عادل وصفي).. وجميعهم لم يقرؤوا نعيهم ولم يروا بوستراتهم.. إلاّ رئيس تحرير "الرصيف" المتمرّد ـ الصعلوك علي فودة، الذي كادوا يضعونه في ثلاجة الموتى.. استيقظ من موته ليومين.. وقرأ نعيه وشاهد بوسترات استشهاده. ابتسم وضحك وقال: عدت من الموت لإغاظة صديقي وزميلي اللدود في نشرة "الرصيف" رسمي أبو علي.. طال عمره!
عن قسوة وفظائع الحرب قالوا: "في الحرب كما في الحرب". لكن في الحرب الأهلية اللبنانية، وفي حرب مقاومة الاجتياح، بقيت بيروت واحة ديمقراطية لغابة البنادق، ولصحافة المنظمة والصحف ووسائل الإعلام اللبنانية.
يكفي أن برنامج شريف الأخوي الإذاعي عن حال الطرق خلال الحرب الأهلية بعنوان "سالكة وآمنة" أو برنامج إذاعي لزياد الرحباني وجان شمعون "بالنسبة لبكرة شو؟". أما نشرة "الرصيف" فكانت علامة فارقة في صحافة الفصائل وصحف لبنان، كما كان موت علي فودة علامة فارقة في حياته ورحيله. لم يركب سفن الخروج معنا، فقد رحل قبل قوافل الخروج بيوم واحد.
أعاد "صخر" إصدار "الرصيف" وقتاً قصيراً في رام الله، دون نكهة صعاليك "الرصيف" البيروتية.. رحمه الله!