مكتبة «التنبكجي» الدمشقية تذكّرني بمكتبة الجعبة في رام الله، سوى أن صاحب الأولى الشيوعي وكيل كتب ومجلات اشتراكية بسعر زهيد طبعاً. مما كنت أشتريه مجلة «الصين المصوّرة» بالعربية ذات الصور الزاهية على ورق أبيض ناصع وصقيل.
في مقال اكتشفت شيئاً عجيباً عن الإتقان اللغوي والحرفي الصيني الشهير. كلمة «الرز» و»الزر» نقطة على حرفين. دعكم من الأخطاء اللغوية والطباعية، التي دفعت المدقق إلى زحزحة النقطة من حرف «الزين» إلى حرف الراء، فصارت كلمة «الزر» تُقرأ «الرز».. كيف؟ عن طريق القص واللصق. أنا أقرأ الغلط الطباعي كأنه لم يكن.
هناك من يقول إن مستقبل آسيا رهن بسباق الصين والهند على تأمين صحن رز يومي لرعايا دولتي قارة آسيا، كناية عن سباق الاشتراكية الصينية والديمقراطية الغربية، في دولتَي المليار نسمة ونيّف.
خلاف تحيات الصباح في العربية وسواها، فإن تحية الصباح الصينية هي: «هل أكلت رزاً؟» وجوابها: نعم.. أكلت رزاً، بدلاً من الحمد لله. مثلاً يقولون: «العالم الهندي» كناية عن التنوّع الإثني ـ الديني ـ القومي، لكن يقولون: الهند الصينية عن دول جغرافية خارج كتلتي الصين والهند.
في قرون خلت كانت الدولتان تتبوّآن الاقتصاد العالمي، وفق تكنولوجيا قديمة، قهرتها التكنولوجيا الغربية، واحتلت أوروبا الاستعمارية كلا البلدين الشاسعين العظيمين، اللذين تقهقرا وتمزّقا.
«حرب الأفيون» دمّرت الصين القديمة، التي أهدت الحضارة اكتشاف الورق، وأهدت الحصون سور الصين العظيم.. وأهدت الاشتراكية الماركسية النموذج الصيني، بعد انتصار «المسيرة الكبرى» لصين ماوتسي تونغ، الذي انتصر على صين الكومنتانغ القديمة، وأزاحها من البرّ الصيني إلى جزيرة «تايوان» الموالية للولايات المتحدة.
في ستينات القرن المنصرم كانت مدفعية البرّ الصيني تقصف جزيرتي كيموي وماتسو، وتوجه بكين الماوية الإنذار الألفي الثاني للولايات المتحدة الإمبريالية تحت شعار «ريح الشرق تغلب ريح الغرب»، الذي صار في ألفيتنا المعاصرة ما يُعرف بإحياء «طريق الحرير» القديم، وحملة أميركا على تكنولوجيا الصين مثل «هواوي».
نسي العالَم كيموي وماتسو، ثم نسي استعادة الصين قطاع «ماكاو» البرتغالي الاستعماري.. والآن قصة «هونغ كونغ» التي استعادتها بكين سلماً من الاستعمار البريطاني، بعد نصف قرن بالتمام من انتصار الاشتراكية الصينية.
أولاً، استعادت الصين مقعدها من جزيرة «الصين الوطنية» في الجمعية العامة ثم مجلس الأمن، وصارت دولة نووية كما الهند، وانتهت الحروب الحدودية بين جبّاري آسيا، وفق شعار بكين «صين واحدة».
من «صين واحدة» إلى «بلد واحد ونظامان» بعد استعادة جوهرة هونغ كونغ. بعد مرور عقدين على ذلك، وصيرورة الصين قوة تكنولوجية واقتصاد عالمي هو الثاني بعد أميركا، يقولون: القرن الحالي هو قرن الصين، بعدما كان القرن السابق قرن أميركا وتنافسها العسكري مع الاتحاد السوفياتي المنهار.
الصين، خلاف روسيا، حققت حلم لينين: النظرية الشيوعية والتكنولوجيا الغربية، وهي تريد أن تطوي صفحة: بلد واحد ونظامان اقتصاديان.
تعرفون أن قومية «الهان» الصينية تشكل نصف سكان الصين خلاف فسيفساء الهند، واحتوت بلاد التيبت ونفت الدلاي لاما، وهي تتطلع ولو بعد قرن آخر إلى استعادة تايوان للوطن الأم، وسوف يتم ذلك سلماً كما تمّت استعادة هونغ كونغ.
المسألة مصيرية للصين، لأن الجرف القاري سوف يتسع، وتصبح الصين مقررة في «بحر الصين الجنوبي» كثير الجزر والغني بمكامن النفط، الذي يلزم الصين، أكبر مستورد عالمي للنفط.
لم تعد الضفة الأخرى للمحيط الهادي تتوزع بين أميركا واليابان، بل بين الصين وأميركا، ولم تعد بكين بحاجة إلى مدافعها البرية لاستعادة كيموي وماتسو، أو استعادة هونغ كونغ بعد «ماكاو»، ولا تحتاج إلى توازن نووي مع أميركا لاستعادة تايوان، بل إلى الانتصار في الحرب الاقتصادية مع أميركا ثم استسلام تايبيه لصالح بكين.
بعد الانهيار السوفياتي الأيديولوجي والعسكري، وانتصار حلف «الناتو» على «حلف وارسو» انهار الروبل الروسي قبالة الدولار، لكن عملة «اليوان» الصينية الرخيصة للتصدير الخارجي، كما عملة «الين» الياباني الرخيصة للتصدير، تشير إلى زمن قد يستبدل العالم الدولار الأخضر الأميركي باليوان الصيني.
بعد الاستعمار الأوروبي، ثم الإمبريالية الأميركية العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، سوف تصبح الصين نوعاً من إمبريالية أخرى على شعار «طريق الحرير» الجديد.
في هذه التحوُّلات الصينية الكبرى، خلال أقل من قرن على انتصار «المسيرة الكبرى» المادية، بقيت صورة ماو في ساحة السماء السماوي (تيان ـ آن ـ من) ونجحت بكين في قمع كل تمرُّد في التيبت ثم تمرُّد ساحة السماء السماوي، وأخيراً تمرُّد هونغ كونغ، بالسياسة.