الذي سمع بكاءً آخر غريريا

الذي سمع بكاءً آخر غريريا ؟!

الذي سمع بكاءً آخر غريريا ؟!

 العرب اليوم -

الذي سمع بكاءً آخر غريريا

بقلم _ حسن البطل

أعرف حسين برغوثي قليلاً (بما يكفي لأحبه كثيراً)، لأنه إنسان حقيقي، فهو، إذاً، المجهول الأكبر في هذا الكون؛ ولأنه - كأي إنسان حقيقي - يمزج بين المدركات (إنه كيكغاردي بامتياز) وبين المحسوسات (بحيث شعرت بأن هذه «الزعراء» تنتظرني إذا قمت بزيارة ليلية أخرى إلى بيته في «كوبر»).

هذه القرية، المرمية إلى جانب بيرزيت، أكبر من قريتي، المرمية إلى جانب البيرة.. ولكنهما قريتان صغيرتان قديمتان ومتجدّدتان في ريف رام اللّه، أجمل ريف في هذه الضفة الفلسطينية، وريفها هو الأجمل، بدوره، بين الأرياف العربية.

أتحفني حسين برغوثي بأجمل نص مفتوح (أسماه «سيرة ذاتية»)، أنا مثله مأخوذ بالضوء، وقد أخذني في سيرته «الضوء الأزرق» إلى مغامرته العقلية الشبابية أثناء غربته الأميركية، ثم إلى مغامرات طفولته في لبنان.. وأول احتلال الضفة.

في زيارة ـ مداهمة إلى بيته (العائلي ـ الشخصي) في كوبر، تحولت زيارة فنجان القهوة إلى جلسة سمر، وهذه إلى حفلة شواء. بين الحفلتين تجوّلت، وحيداً، مئات الأمتار في ليل دامس، ذات ليلة صيف قائظة.. ولم أحترس من هذه «الزعراء» القصيرة جداً، الثخينة والملوّنة (تأخذ لون الأرض).. إنها إحدى أكثر الأفاعي سُمِّيَّة في العالم؛ أفعى مُؤلّفة.. بقرون؟!

في شهادته بفصلية «الكرمل - 66» التي تلج الألفية الثالثة، فهمت ما فاتني من «الضوء الأزرق» وشخصية صاحبه: هذه العلاقة بين «الضوء» و»القوة». هل نجم الشمس سوى نسيج علاقة ضوء-قوة؟ وهل أي إنسان (المجهول الأكبر) سوى نجم صغير في مجرّة الإنسان؟!

أحب ريف رام اللّه كما يحبّه حسين، هذا الكيكغاردي، الذي يرى الحياة سلسلة لا تنتهي من «البدايات». أمام الموت نحكي عن بدايات؟

يقول: «لم يعد لي من مكان، في كل هذه «الانتفاضة» إلا التردد، بشكل ممل أيضاً، على مستشفى رام اللّه، فهو الآن كعبتي الأخيرة أو حائط مبكاي الأخير. هناك متّسع لي بين الولادات الجديدة، وبين ثلاجة حفظ الموتى تحت».. نهرته الممرّضة: «نحن في طوارئ» فما أهمية مرض السرطان؟
يقول: «كان القمر بدراً، والهواء صقيعياً في جنائن اللّوز حول بيتنا، وأنا أتجوّل بين الظلال وأتأمّل في هذه النهاية. أرجعني إلى هنا مرضي بالسرطان، ووجع في الظهر مستمر إلى حد الملل». الملل أقسى من الموت لدى كيكغارد.

أحد أعمامه قتلته هذه «الزعراء» بسُمّها. لسعته بين الخرائب.. التي جال بها ليلاً، فسمع بكاءً كبكاء طفل صغير. يدنو الصوت إذا ابتعدت، ويبتعد إذا دنوت. كان هذا صوت الـ «غريريا». كائن انقرض تقريباً (لأن لحمه لذيذ). قال له خاله: «ربما سمعت صوت آخر غريريا في هذه الجبال».

قال لنفسه: «لا. رأيت (لم يقل سمعت بكاء) غريريات كثيرة في مستشفى رام اللّه. كنّ يلدن ويولدن في الطابق العلوي، فوق، أو يحفظن في ثلاجة الموتى تحت، لكن رأيتهن..».

تشكل شهادته (علاقة الضوء- القوة؛ الذات- الموضوع) الشهادة الأكثر متانة بين الأقلام الفلسطينية التي شاركت في الكُرّاس، ولا تُضاهيها، من زاوية أخرى، سوى شهادة حسن خضر: خط هاتف يصل بينه (في رام اللّه) وابنته (في خان يونس)، خلال موجة القصف الأولى بالطائرات.

لابنته، الآن مثل عمره العام 1967، عندما شهد بعينيه مصرع والده بقذيفة إسرائيلية، ولا يزال حسن خضر يحمل أثار جرح من شظاياها في قدمه (صار يحاور يهوشواع.. ويحتقره).

في السنوية الخمسين للنكبة، قبل عامين، ولد حفيد للأب الميت وطفل للأخ الأكبر لحسن خضر. بيت-لاجئ شهد حياة أربعة أجيال في المنفى.

يقول حسن خضر: «من حقي كواحد من السكان الأصليين (يا للسخرية!) البحث عن إجابات مناسبة تحرّر الحكاية العائلية من شبهة الأقدار العاتية، أو المصادفات الناجمة عن سوء الحظ. ففي سيرة أربعة أجيال من عائلة واحدة ما يُبرّر البحث عن ناظم يعقلن السيرة، أي يضعها على سكّة التاريخ».

في كرّاس آخر عن شهادات الانتفاضة، نشرته «الشعراء» - شتاء 2001، هناك أكرم مسلّم، تلميذ حسين برغوثي في الجامعة. في السادسة من عمره اختبأ خلف كومة حجارة من سيارة عسكرية إسرائيلية..
1987. حتى الآن يشعر بالعار لضحكات الجنود على خوفه الطفولي (في مرحلة لاحقة سيبعثر الكومة).. في أوّل الانتفاضة الكبرى، ويزعم أن عمره كان أكبر بقليل  من 16 عاماً، وهكذا ينضوي تحت القوات الضاربة (لا يزال يبدو طفلاً).

من ذاكرة ريفية إلى ذاكرة المنفى الأميركي، فالعودة إلى ريف رام اللّه. هذا هو حسين برغوثي (بعض- بعضه).

من ذاكرة مخيمية إلى ذاكرة فدائية وبيروتية، فالعودة إلى مدينة رام اللّه. هذا هو حسن خضر (جانب منه).
في بناء ذاكرة جمعية فلسطينية يأخذ كل واحد من الثلاثة مكانه في علاقة الضوء- القوة؛ الذات- الموضوع؛ الأنا- الآخر.

arabstoday

GMT 06:34 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

المصريون والأحزاب

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الذي سمع بكاءً آخر غريريا الذي سمع بكاءً آخر غريريا



الأسود يُهيمن على إطلالات ياسمين صبري في 2024

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 15:26 2025 الخميس ,09 كانون الثاني / يناير

أحمد مكي يخلع عباءة الكوميديا في رمضان 2025
 العرب اليوم - أحمد مكي يخلع عباءة الكوميديا في رمضان 2025

GMT 04:11 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف

GMT 16:20 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

ضربات أمريكية لمنشآت بمحافظة عمران اليمنية

GMT 15:00 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

الأهلى القطرى يعلن تجديد عقد الألمانى دراكسلر حتى 2028

GMT 14:49 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

الاحتلال يقتحم عدة بلدات في القدس المحتلة

GMT 02:00 2025 الخميس ,09 كانون الثاني / يناير

حرائق ضخمة في لوس أنجلوس تجبر الآلاف على إخلاء منازلهم

GMT 14:26 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

"الخارجية الفلسطينية" تدين جريمة الاحتلال فى جنوب شرق طوباس

GMT 17:23 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

هيا الشعيبي تسخر من جامعة مصرية والشيخة عفراء آل مكتوم ترد

GMT 10:42 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

رامي صبري يتحدث عن إمكانية تقديمه أغاني خليجية

GMT 23:27 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

زوجة رامي صبري تبدي رأيها في أغنية فعلاً مبيتنسيش
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab