على رأسي اسم أحمد عصام إسماعيل المواطن السوري صاحب فابريكة «نورا» لطواقي وقبّعات (كاسكيت). لدي عشر منها مختلفة الماركات، صيفية وشتوية، لكنها الأثير لديّ صيفاً. عادتي أن «أتبرنط» لا عن صلعة ولا عن شيبة، إنما لقبضة فوضى شعر رأسي الذي أهرشه.
دلالة الاحترام هو القول: «على عيني وراسي» لأن فابريكة طواقي شامية أصيلة تستحق القول: «يا مال الشام»، ولديّ منه ومما صنع في دمشق الشام علبة خشبية مطعمة منزلة يدوياً بالزخرفة الشامية، ومبطّنة بقماش أحمر.
صارت العلبة هذه، التي اشتراها المرحوم والدي عام 1956 من حي «باب شرقي» الشامي القديم، تحفة هي ميراثي العائلي والوحيد من أبي اللاجئ الفلسطيني، ولما طعنت أمي في السن، في العقد الأخير من الألفية المنصرمة، نقلتها إلى مقتنياتي. هي «علبة ملبّس» للضيافة أيام الأعياد العائلية الغابرة، وأملأها وأفتحها، وأتناول منها، في غير أيام العيد. تحفة أثرية!
في غربتي المديدة عن الشام، أوصيت والد صديقي سعادة سوداح، أن يجلب لي «طاولة زهر» شامية إلى قبرص، في ثمانينيات القرن المنصرم، وحملتها معي إلى فلسطين، هل أنا «طوطمي؟» لست تماماً، فقد أوصيت على مفرش مائدة شامي بتطريز «أغباني» ملون، وكذا بيجامة من حرير صناعي، اشتراها لي من الشام زائر سوري يقيم في قبرص، وكان سعرها آنذاك ما يعادل 8 دولارات لا غير.
ما الذي ساق ذكرياتي عن مقتنياتي الشامية الأثيرة؟، التي تدوم و»تضاين» مرور الزمن، وتبقى قوية وجميلة؟ لما طلبت طاولة «شيش بيش» للعب دق مع صديقي، جاءني صبي المقهى بطاولة صقيلة ولامعة ذات تقليد صيني لصناعة خشبية شامية مرموقة، واضح أن إنتاجها يتم عن طريق «طباعة ثلاثية» حاسوبية زاهية الألوان، لكنها بشعة. أحجارها الثلاثون من البلاستيك، لا من خشب الجوز كما في طاولات الزهر الشامية، وهي مصنوعة من رقائق خشب الساندويش، وحجر نردها من البلاستيك لا من العظم.
يمكنك أن تقول عن الفوارق في الملمس والمنظر بين صناعة حرفية عريقة (أرتيزانا) وبين صناعة آلية بطريقة الطباعة ثلاثية الأبعاد.. أو تسألوا أي لاعب طاولة زهر عن «طنّة ورنّة» طاولة وأحجارها من خشب الجوز الشامي، وأخرى من خشب الساندويش.
لا أعرف بِكَمْ تُباع، الآن، البضائع الصينية المنافسة في أسواق دمشق، وبِكَمْ تُباع البضائع الشامية التقليدية، لكن سعر صرف الليرة السورية، مقابل الدولار، تدهور من 48 ليرة قبل العام 2011، إلى 650 ليرة هذا الأسبوع.. ضريبة الحرب والاقتصاد.
في العالم تدور حرب تجارية، في الأسعار والاحتكار، كانت، قبل عقود، بين اليابان وأميركا، وصارت بين أميركا والصين، من السيارات والملابس والسراويل إلى تطوير أجهزة الهاتف المحمول. وفي أسواق فلسطين أزاحت صناعة الملابس التركية الملابس الإسرائيلية، لكن ما لا يعرفه المستهلك الفلسطيني أن صناعة الملابس السورية ذات جودة تفوق مثيلتها التركية، وتنافس الأوروبية.. لكنها مفقودة في السوق الفلسطينية، رغم أنها أرخص وأكثر جودة من مثيلتها التركية.
قبل النزاع والصراع في سورية وعليها، كانت سورية البلد العربي الوحيد المكتفي ذاتياً، نظراً لتوازن فروع الزراعة والصناعة والتجارة والسياحة، ولم تكن لسورية حاجة للاستدانة من أسواق المال الأجنبية. يكفيها أنها كانت البلد العربي الوحيد الذي ينتج حاجته من القمح، ويصدّر في سنوات كثيرة ما يزيد على الحاجة.
بعض الناس يخلطون بين الحزب الحاكم والنظام، وبين النظام والشعب، وبين سورية البلاد وسورية الحزب والنظام، وبين سورية العروبة وسورية الحروب الأهلية.
في العالم يقولون إن دمشق عاصمة سورية، وفي سورية يقولون إن الشام هي العاصمة، وفي بلاد العرب كانوا يقولون: «يا مال الشام» في المأكل والملبس والصناعة الحرفية.. وفي جمال نسائها، أيضاً.
قبل أن يتهوّر صدام حسين، ولمّا كان نائب الرئيس كان يحلم بأن يبني بغداد لتصير جميلة كما هي الشام جميلة ونظيفة ومنظمة.
157 مرّة !
كم مرّة رفع سيزيف، الأسطورة الإغريقية، الصخرة من حضيض الجبل إلى قمّته؟ في قرية بدوية في النقب قصة واقعية معاشة وجارية هي قرية العراقيب غير المعترف بها من دولة إسرائيل، ونزاع هذه القرية جزء من الصراع على الأرض، أو من تهويد النقب. إبّان الحكم العثماني اشترى سكان العراقيب أراضيهم. في العام 1951 طلبت إسرائيل إخلاء القرية لمدة 6 شهور لإجراء تدريبات عسكرية، ثم كررت طلب الإخلاء ستة شهور أخرى.. ثم منعت سكانها من العودة، وفي العام 2000 بدأ السكان باستثمار آبار مياه قديمة لزراعة أراضيهم، فقامت إسرائيل برشّ المزروعات بالمبيدات المميتة!
طوال 19 سنة قامت الجرافات الإسرائيلية بتقويض وهدم خيام القرية وبيوت الصفيح، للسيطرة على مئات آلاف الدونمات الأخرى.
حتى الآن، هدمت الجرافات بيوت القرية 157 مرة، واعتقلت وأبعدت الشيخ صيّاح الطوري عنها مدة ستة شهور. في كل عملية هدم يعيد السكان بناء ما تهدم، لكن الـ 400 ساكن فيها تضاءلوا إلى بضع عشرات..
وأخيراً، قررت السلطات الإسرائيلية تدفيع السكان ملايين الشواكل تكبدتها السلطات في أعمال الهدم.
هناك سجلات للأرقام القياسية الدولية في كل شأن وأمر، وهدم وإعادة بناء قرية صغيرة 157 مرة يشكل رقماً قياسياً ينفي عن البدو ادعاء أن علاقتهم بالأرض ليست كعلاقة الفلّاح بأرضه، وعلاقة الفلسطينيين بأرض بلادهم.
منذ قرابة العامين تحاول إسرائيل هدم قرية الخان الأحمر، ونقل سكانها إلى مكان آخر، بعد أن تم نقلهم من ارض النقب بعد النكبة.
قصة الخروف «حنتوش» للفتاة البدوية من الخان الأحمر، صالحة حمدين، فازت بجائزة دولية عن «أدب الأطفال»، وهي تلخص الصراع على الأرض.