بقلم - حسن البطل
«إذا نوّرت أُطعمت للحمير» وأنا واحد مثلكم من أَكَلَة الخبيزة. وعلى شرفتي «سوبر خبيزة» تتربع أميرة في قوارة ضخمة!
أشرب قهوة الصباح، وهي تشرب أشعة شمس شتاء دافئ، تصلها أكثر دفئاً من خلف زجاج شرفتي الفسيحة.. كأنها مستنبت «حماموت» تريد سمو الأميرة خبيزة أن تتأمّر فيه على الملكات المزهرات!
هذه أميرة متسللة وجدت في القوارة غذاء ملوكياً اشتريته لغيرها من «الفلاورز شوب» .. وخلطته بقليل من تربة حمراء جبلية، كانت «ملغومة» ببذور برية.
الأميرة خبيزة تتربع في قوارة هي «ربعية» برميل حديدي نويت زرع شجيرة صنوبر ألمانية فيها.
قبل أن أفعل، أطلت بادرة نبتة غريبة.. فإذا بها بطاطا؟ أبله من يزرع بطاطا في قوارة على شرفته. قرأت أن الألمان بين جمهورية فيمار ورايخ هتلر، زرعوا البطاطا على سقوف بيوتهم بدل القرميد الأحمر.
جاء الكابورال الذي صار فوهرراً، وصاح بهم: أيها الجرمانيون.. إلى متى تأكلون البطاطا ثلاث مرات في اليوم، وغيركم يأكل الكافيار؟! فصاحوا: «هايل هتلر. ألمانيا فوق الجميع. هيا إلى كافيار بحر قزوين لنأكله بالملعقة».
قلعتُ البطاطا البلهاء، لكن من يقوي قلبه على اقتلاع نبتة بندورة في القوارة؟ أزهارها عيون طفل واسعة تتوسل. تنوّر وتتكوّر ثماراً بنسق عجيب. لتنتظر شجرة الصنوبر عاماً آخر. الولد انبسط من «بندورة سوبر» على الشرفة (أطول منه) والأصدقاء تذوقوا «بندورة بطعم البندورة».
جاء دور الأميرة خبيزة في حق الحياة بالقوارة. نبتة فطرية جداً. مسالمة، قنوعة.. فلو أنها هددت حياة نبتة الحبق البري، في الطرف الآخر من القوارة، لأجهزتُ على روحها.. باعتباري من أكلة الخبيزة، وكمثقف صغير من أنصار الحبق البري.
خلال شهر لا غير، شبّت الخبيزة من شتلة قميئة إلى أميرة نباتات الزينة على الشرفة. أسقي خبيزتي ماء سخياً، لأغيظ خبيزات حقول، تحتها بطبقتين، لا تزال قزمة في شتاء شحيح المطر.
فوجئت، بالأمس، أن الأميرة توشك على البلوغ. يقولون: «البنت نوّرت» أي ستصير ناهداً.. وكاعباً.. وامرأة ولوداً. النبتة توشك على التنوير.. لتورّث الإمارة إلى ذراريها إذا لم أفترسها. ماذا أفعل؟ أزيح الستارة لتشرب مزيداً من ضوء الشمس!
تتسع الشرفة لما أحب وأريد من نباتات الزينة. سأترك الخبيزة وشأنها. ربما ستتطاول قامتها على قامتي، فأخلدها بصورة في أرشيفي .. وليس لموسوعة «غينيس».
قرأت أن رجال الأعمال اليابانيين يزرعون شجيرات زينة قميئة في قوارات مكاتبهم الفخمة. وبعضهم يزرع شتلة فليفلة أو بندورة، ثم يتبارون في التغني بها بين صفقة خاسرة صغيرة، وأخرى رابحة وكبيرة.
صديقي مثقف كبير، زرع في شرفته شجيرة خروع، من لا يكره مذاق الخروع؟ غير أن أوراقه مدهشة في سرعة النمو (الماء والخضراء والوجه الحسن).
الخبيزة تنمو مطمئنة إليّ، ومطمئنة على سلامة حياتها من أسنان الماعز والحمير والبقر. صارت تنمو خرافياً، حتى أنها نوّرت في كانون الثاني.
صيفية بندورة، خريفية بطاطا.. وها هي شتوية خبيزة في قوارة لعينة واحدة. الخبيزة تظل بطعم الخبيزة.. خلاف البندورة والبطاطا «المؤدلجة» وراثياً.
حتى الآن، لا تشكو نبتة الحبق البري من تآمر الخبيزة. لو شَكَت لطوّحت بالإمارة والأميرة لصالح الحبقة التي زرعتها أميرتي الحبيبة، وصارت تداعبها بأناملها.. وأنا أشم الحبق من الحبق على أيد من الحبق!
«إذا نورت أُطعمت للحمير» غير أن المثقف البيئوي مثلي قد يحب قهوة الصباح مع خبيزة تشرب أشعة الصباح. مذاق القهوة يظل كما هو، والخبيزة مذاقها كما هو.. بينما مذاق كثير من الخضار صار مثل مذاق كثير من الأفكار التي لا تنور، ولا تكبر، ولا تخلّف.. ولا تريد أن تموت.!
على ساحل غير مطروق في تونس، صادفت قرنفلاً برياً. قزم القامة. عشوائي النمو .. وله رائحة لا ينساها خيشومك، ولا يجدها في دكاكين الزهور. القرنفل لم يعد القرنفل. الخبيزة تظل الخبيزة. حكمة صغيرة من فن البقاء في الحياة.. إذا لم يروض الإنسان النباتات طلباً للوفرة على حساب النكهة.
قرأت استطلاعاً أميركياً طريفاً. سألوا بعض أولاد حي هارلم في نيويورك: من أين تأتي أمهاتكم بالبيض؟ بعضهم أجاب: من مصنع «السوبرماركت».
يقال: الولد يتعلم من متابعة نملة أكثر مما يتعلم من برامج مايكروسوفت، والمثقف الصغير والفقير مثلي، يتعلم من نبتة الخبيزة خيراً من تعاطي أفكار نيئة، أو سيئة الطبخ، أو رديئة المذاق.. مدجّنة أو مؤدلجة.