يرى بعض دارسي الأغاني الشعبية أن أغنية «مصر يا أمه يا بهية» تحتل مكاناً مرموقاً في حبّ البلاد بين الأغاني الشعبية العالمية. واضح أن الأغنية هذه أبرز ما كتبه احمد فؤاد نجم، وأنشده الشيخ إمام، بعد هزيمة حزيران العام ١٩٦٧.
أكثر من أي شعب ودولة عربية، تبدو مصر العريقة، لا بما هو معروف عن كونها فجر الحضارات الإنسانية، إلى كونها أشبه بشعب - دولة - أمة، في هذا العالم العربي وداخل الأمة العربية»!
ليس لأن مصر تتوسط جناحي هذا العالم، وضع عنها جمال حمدان (١٩٢٨ - ١٩٩٣)، أحد أعلام الجغرافية في القرن العشرين، مؤلفه الرباعي الأجزاء: «مصر: دراسة في عبقرية المكان». ومن قبل وضع علماء الحملة الفرنسية ما يشبه موسوعة من ٢٠ مجلداً، بعنوان «وصف مصر» نُشرت العام ١٨٠٩.
لبعض علماء الآثار المصرية، أن يتساءلوا: هل حقاً أن مصر الآن، الشعب والبلد، هي وريثة شعب وحضارة بنت الأهرام، كما أكثر ممن يتساءلون هل ان اليونان الحالية وريثة حضارة وفلسفة وعلوم الإغريق؟
في كتابه «فلسفة الثورة» قال عبد الناصر عن «دور يبحث عن بطل؛ وبطل يبحث عن دور» أكثر من محمد علي باشا ودوره في نهضة مصر، بحيث كان البون بينها وبين أوروبا، فجوة جيل واحد، وصارت مصر الناصرية مركز العروبة السياسية، وزعيمها «الرّيس» بطلاً لها.
مات مؤلف: «مصر، دراسة في عبقرية المكان»، العام ١٩٩٣، ولعل ذاك العام يشكل بدء انزياح مركز العروبة السياسية الى دول التخوم العربية، مع انكسار العراق البعثي و«تحرير الكويت»، وكما كان كامب ديفيد المصري - الإسرائيلي بداية انحسار مدّ العروبة السياسية الناصرية، ثم بداية انحسار العروبة البعثية مع انهيار العراق.
مفهوم دول التخوم العربية يعني، بالذات، دولتي العراق وسورية في مواجهة إيران وتركيا، مع الانهيار العراقي بعد احتلال بغداد، ثم بدء التفكك السوري بعد العام ٢٠١١، صارت بلاد الخليج هي التخم العربي،
وتحققت ما تسمى «الحقبة السعودية» التي بدأت بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣، ومعها بدأ الإسلام السياسي يأكل من صحن العروبة السياسية، مصر موطن حركة الإخوان المسلمين، والسعودية موطن الإسلام الوهابي. حركتان إرهابيتان.
دور الملك فيصل السعودي في دعم حرب أكتوبر واستخدام سلاح النفط تدهور في مركز التخم الخليجي الى استخدام عوائد النفط الوفيرة لزعزعة دول العروبة السياسية.
صار الخليج، الآن، هو المركز العربي المالي والإعلامي، وبلاد «مدن الملح» وفي النتيجة المركز السياسي العربي، بعد تشكيل مجلس التعاون العربي السداسي، وبعد فشل العروبة الناصرية والسورية البعثية في تحقيق الحدّ الأدنى من شعارات العروبة السياسية - القومية، وفشل مشروع الوحدة المغاربية أيضاً.
قاتل عبد الناصر ومصر الناصرية، كقائدة للعروبة السياسية، ضده الاستعمار في قصور الرجعية، والرجعية في أحضان الاستعمار، وقاوم القواعد العسكرية الأجنبية، سواء بعد انتصار ليبيا القذافية، او انتصار اليمن الجنوبية على القواعد الاستعمارية.
أيضا حارب ناصر الأحلاف الأجنبية، مثل «حلف بغداد - السنتو» وقاوم نظرية «الفراغ» في الشرق الأوسط، لصاحبها مدير المخابرات المركزية ألن فوستر دالاس، شقيق وزير الخارجية جون فوستر دالاس، وقال ناصر إن العروبة هي تملأ الفراغ هذا.
الآن، صارت القواعد الأجنبية في سورية (قاعدة حميميم الروسية، وقاعدة السيلية في قطر) والأذرع الإيرانية في العراق وسورية واليمن، ودور تركيا في الحرب الأهلية السورية.
في العروبة السياسية كانت «الخوذة» هي من تحكم، وفي الإسلام السياسي صارت «العمامة» هي من تقود أو صارت إسرائيل تحسب حساباً لنصر الله من جهة، وتعربد طائراتها في سماء سورية والعراق ولبنان. تحققت نبوءة بن غوريون عن خراب العراق وسورية ومصر.
من احتراب العروبة السياسية مع الإسلام السياسي الى احتراب الإسلام السني العربي مع الإسلام الشيعي الإيراني بالتحالف مع أميركا، تفككت عروبة مجلس التعاون الخليجي في نزاع السعودية مع قطر، ثم في حرب التحالف العربي ضد اليمن، أميركا تلعب على هذه الخلافات وتؤججها لتبيع الأسلحة.
دور مصر الآن في مشاكل جارتيها السودان وليبيا ليس اكبر من دور القوى الخارجية في سورية والعراق، ويكاد لا دور لها في النزاع الخليجي، وباستثناء دورها في الوساطة بين «حماس» وإسرائيل لا تلعب دوراً مؤثراً في النزاعات العربية.
متى تعود مصر الى قيادة مركز العروبة السياسية؟ هذا يتعلق بسؤال: هل تطفو مصر من مشاكلها الاقتصادية، وبذا تطوي مرحلة مصر المهادنة في خلافات العالم العربي وصراعاته البينية، الى استعادة دور القيادة والريادة السياسية العربية.
في بداية المد الناصري كان عدد سكان مصر ٢٥ مليونا، والآن صاروا زهاء المائة مليون، وصار الجناح الشرقي من العالم العربي موضع نزاع وتنافس بين المركز الوهابي، والمركز الشيعي الإيراني، والمركز التركي السني .. عداك عن المركز الإسرائيلي، واختفى دور المركز السياسي العروبي المصري.
مصر تعاني من ذلك، ومعها تعاني فلسطين، خاصة مع تحالف إسرائيل اليمينية مع أميركا اليمينية، ومضاعفات انسحاب أميركا من الاتفاقية النووية مع إيران، ثم انسحابها من توافق دولي على «حل الدولتين» في فلسطين - إسرائيل.
كانت مصر مركزية، وفلسطين قضية مركزية .. والآن تعددت المراكز.