بقلم : وليد شقير
تنطوي المواقف الرنانة والتصعيدية التي تصدر عن كل من موسكو وواشنطن نتيجة تفاقم الخلاف على سورية وتعليق التعاون بينهما حول الهدنة التي اتفقا عليها مطلع الشهر الماضي، على قدر كبير من المناورة والرياء الخادع. فتارة يلوح الجانبان باستعدادهما للمواجهة العسكرية، عبر خطوات رمزية من نوع نشر موسكو صواريخ إس- 300 وإرسال المزيد من الفرقاطات إلى المتوسط، أو تحليق طائرات استطلاع أميركية فوق السفن الروسية وقاعدة طرطوس الروسية والتلويح بتزويد المعارضة صواريخ أرض- جو وقصف مدرجات المطارات السورية، وأخرى يعيدان فتح باب التواصل الديبلوماسي ويعاود جون كيري وسيرغي لافروف التواصل الهاتفي بينهما.
ترتفع النبرة في الرسائل الميدانية والعسكرية من دون وضع اليد على الزناد، في استعراض قوة لا طائل منه وبات الجميع يدرك أنه مجرد مناورات ليس إلا، أمام أعين العالم، بينما يواصل الروس وقوات بشار الأسد والإيرانيون محاولة قضم مدينة حلب فوق أشلاء السوريين التي مزقتها القنابل الروسية الارتجاجية والعنقودية، وعلى أشلاء أحياء المدينة التي سيسجل التاريخ أنها تحولت «غروزني» ثانية بعد 16 سنة على تدمير عاصمة شيشينيا. وبلغ التصعيد الكلامي حد وقف فلاديمير بوتين التعاون مع الأميركيين على خفض الأسلحة النووية، والعودة عن التخلص من أطنان من البلوتونيوم «رداً على التصرفات الأميركية غير الودية».
لا يملك أي من الدولتين كلفة المواجهة المباشرة، فلا روسيا يمكنها التصرف مثل كوريا الشمالية في جموحها النووي العسكري (والذي حولها دولة مارقة)، في وقت طموحها الفعلي هو رفع العقوبات الأميركية والأوروبية المؤذية التي أنهكت اقتصادها نتيجة الأزمة الأوكرانية، ولا أميركا ستتورط في صدام في وقت تستند فلسفة باراك أوباما إلى الانسحاب من الحروب في الخارج للتعافي من تداعيات حربي العراق وأفغانستان، فكيف بحرب مع الدب الروسي، على رغم قيام البيت الأبيض «بمراجعة الموقف في سورية حول خيارات استخدام القوة». وبات واضحاً أن ما يجري من تحريك قوات أو أسلحة يتم من أجل حرب لن تحصل.
ومع أن التهديد الأميركي أنتج إعلان قوات الأسد تقليص الضربات الجوية في حلب، فإن هذا لم يكن إلا ثمرة إبقاء الجانبين على الخيار الديبلوماسي تحت سقف الكباش الحاصل بينهما. موسكو تعطي الإشارة بالتراجع أمام «المراجعة» الأميركية، عبر الأسد، حتى لا تفقد صورة من يستخدم فائض القوة الذي تمارسه في حلب وغيرها، لتبرهن أنها دولة قوية. وواشنطن تشتري هذا التنازل الصوري حتى لا تزداد هيبتها اهتزازاً نتيجة إحجامها عن أي خطة لوقف الحرب السورية عبر إحداث التوازن الميداني.
ولا يغير كل ما يحصل بين الدولتين العظميين من الواقع الذي يفرض استمرار هذه الحرب: إدارة أوباما تترقب انتهاء ولايته بلا تورط عسكري في أي مكان في العالم، مع اتخاذ الخطوات المناسبة للحؤول دون فرض تغييرات دراماتيكية في سورية على الإدارة التي ستخلفه، فإذا أرادت التشدد لديها الإمكانات العسكرية عبر القواعد المنتشرة في سائر دول المنطقة والبحار، والقيصر مطمئن إلى أن سورية ملعبه المسلم بأرجحيته فيه، غير آبه بمخاطر جره إلى المستنقع الذي يشكله، على رغم كلفة تحريكه قواته الجوية والبحرية قياساً إلى الكلفة المتدنية عند الأميركيين.
بدل البحث بالمرحلة الانتقالية في سورية، باتت المرحلة الانتقالية في السلطة في أميركا هي معيار الحسابات. وفي انتظار مرور الأشهر، يتحفنا كيري بتصريحات تنتقد «قرار الروس الطائش دعم الأسد وتغاضيهم عن استخدامه غاز الكلور والبراميل المتفجرة»، ويعدنا لافروف بأنه يريد «إعادة سورية إلى وضعها الطبيعي». فالأول يكتشف فظاعات النظام بعد تجاهلها لسنوات، والثاني يضمر استعمال القوة المفرطة ويتلمس الطريق إلى تقسيم النفوذ في سورية بينه وبين إيران والأكراد.
أفسحت واشنطن وموسكو الطريق للفرنسيين كي يملأوا فراغ فشل مبادرتهما الديبلوماسية حول الهدنة، وفتحوا الطريق أيضا لتحرك الاتحاد الأوروبي في السعي لتفادي مزيد من التدهور في العلاقة بينهما، والذي قد يكون أحد مظاهره تزويد المعارضة بأسلحة نوعية.
انتظار الإدارة الأميركية الجديدة قد يكون فسحة زمنية كي تأخذ القوى الإقليمية التي لطالما تأرجحت إدارة أوباما بين دعوتها إلى أخذ دورها وكبحها عن أي مبادرة جوهرية، دورها في إدارة مرحلة الانتظار هذه. وقد تكون التفاهمات السعودية التركية الأخيرة محطة رئيسة على طريق ممارسة هذا الدور. فهل يتقدم خيار إقامة منطقة آمنة في شمال سورية يتم نقل عشرات الآلاف من النازحين إليها، مع حماية لأجوائها لأسباب إنسانية؟