بقلم : وليد شقير
لا تخرج المرحلة الجديدة من المواجهة بين "حزب الله" وبين إسرائيل في لبنان عن الحرب بالوكالة التي تخوضها طهران وواشنطن على امتداد الإقليم منذ سنوات، تحت سقف تجنب الحرب المباشرة والكبرى.
القاعدة نفسها التي اعتمدها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما يعتمدها خلفه دونالد ترامب، وتقضي بعدم الاستجابة لخيار إسرائيل شن الحرب المباشرة على إيران. أضاف إليها ترامب الحرب الاقتصادية التي يدور كل شيء منذ انسحاب إدارته من الاتفاق على النووي، حول مفاعيلها على طهران والوضع الإقليمي برمته. فالتصعيد الإيراني في الخليج، انطلاقا من اليمن، والتحضيرات الإيرانية لمزيد من الضربات "بالوكالة" انطلاقا من العراق وسورية، ورد الفعل الإسرائيلي عليها بضربات استباقية، لا تخرج هي الأخرى عن المنطق الذي يذهب بالحرب بالوكالة إلى مخاطر الانزلاق نحو توسعها مع احتمال تحولها إلى الحرب المباشرة.
في الحالات السابقة بقي النهج نفسه: الوكيل يحارب والأصيل يفاوض. وهكذا شهدت الجبهات الإقليمية موجات من التصعيد وأخرى من التفاوض على المرحلة الجديدة من الحرب الاقتصادية والنفوذ الإقليمي.
بعد إرسال إسرائيل الطائرتين المسيّرتين إلى ضاحية بيروت الجنوبية وانفجار إحداهما قرب المركز الإعلامي لـ "حزب الله"، لا تقل المخاطر التي يمكن أن تنجم عن المواجهة المحتملة بين الحزب وإسرائيل، عن خطر الانزلاق إلى مواجهة يسعى الفرقاء جميعا إلى تفاديها حتى لا تقود إلى انهيارات إضافية في الوضع الإقليمي المشتعل، وحتى لا تقود إلى الحرب المباشرة، فضلا عن الإجماع الدولي على تجنيب لبنان دمارا هائلا، وإسرائيل أذى كبيرا من الصواريخ الإيرانية في لبنان وسورية، هذا فضلا عن الاهتمام الدولي باستثمار الثروة النفطية والغازية في البحر.
في الأصل أعلنت إيران عن توحيد جبهات الإقليم بلسان الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، حين قال قبل أكثر من خمس سنوات أن ما يجري في المنطقة سيحدد مصيرها لحقبة مقبلة، وبالتالي سيحدد مصير لبنان، ودعا الفرقاء اللبنانيين المعترضين على خوضه الحرب في سورية، للانضمام إليه في القتال هناك، وزار قادة ميليشيات إيرانية الجبهة اللبنانية، وظل الأمر موضوع خلاف داخلي.
بقي لبنان، مع اختلال التوازن الداخلي فيه والتباساته، "محيّدا" نسبيا، بسبب حرص الغرب على ألا تستفيد طهران من انفراط الدولة من جهة، ولأسباب تتعلق بتركيبته الداخلية الطائفية المعقدة، ووضعه الاقتصادي الهش من جهة ثانية. ظل الحزب منضبطا في الجنوب وملتزما الهدنة التي أرساها القرار الدولي 1701، الصادر عام 2006 من ناحية وقف الأعمال العدائية، على رغم استمرار الخرق الإسرائيلي للأجواء اللبنانية بالطائرات المسيرة أو الحربية، فيما بقي المجتمع الدولي يراقب خرقه عبر تخزين السلاح. وظلت إسرائيل بدورها منضبطة، حتى عند حصول حوادث لها علاقة بالمواجهة الدائرة في سورية، حيث رد الحزب مرتين انطلاقا من لبنان على استهداف تحركاته في بلاد الشام في شكل "مدروس" ومحدود بالتزامن مع الاستنفارات الديبلوماسية الغربية من أجل التهدئة، بحيث تمتنع إسرائيل عن الرد على الرد، للحؤول دون "الانزلاق" إلى مواجهة غير مجازة من واشنطن. هذا ما حصل عند قصفها موكبا لضباط إيرانيين ولـ"الحزب" تضم جهاد مغنية في محافظة القنيطرة، مطلع عام 2015 ، ثم بعد اغتيال إسرائيل سمير القنطار في سورية في 20 ديسمبر من العام نفسه. في الحالتين فقدت إسرائيل جنودا واكتفت بقصف مناطق جنوبية غير مأهولة لتفادي "الانزلاق"، لكن رد الحزب في الحالتين كان أقل من التوعد الإيراني بأن يكون "صاعقا ومزلزلاً" كما قال مساعد رئيس مجلس الشورى الإيراني حسين أمير عبد اللهيان. على العكس بدا في كل مرة كأن هناك تواطؤا ضمنيا على "الانضباط".
محدودية تورط لبنان في الحروب بالوكالة تعود إلى أن دور "الحزب" كان يدور حول اشتراكه في ترسيخ النفوذ الإيراني في سورية (من هنا الإلحاح على انسحابه منها) وتفهم الحليف الروسي لاستهداف قواعده من قبل إسرائيل، وآخرها الغارة التي قتلت اثنين من مسؤوليه الأحد الماضي، إلى أن أثارت واشنطن وتل أبيب امتلاكه مصانع تطوير الصواريخ على الأراضي اللبنانية، ثم ضربة الطائرتين المسيّرتين في الضاحية، ما أفقد اللعبة "التوازن" في الخروق بين الجانبين داخل لبنان.
تبدو حسابات الرد "المدروس" هذه المرة أكثر تعقيدا بالنسبة إلى "الحزب" وإيران من ورائه. يتوجب مراعاة التحركات الفرنسية واليابانية لمخرج يمهد لاجتماع ترامب مع حسن روحاني الشهر المقبل، يشمل "السماح" لعواصم أوروبية في طليعتها فرنسا، وآسيوية في مقدمها طوكيو بآلية تتيح رفعا جزئيا لعقوبة وقف شراء النفط الإيراني شرط التحقق من وجهة إنفاق مردوده، من أجل تفاوض جديد على النووي، والوضع الإقليمي وصواريخ طهران المنتشرة. وعلى "الحزب" أيضا أن يأخذ في الاعتبار طلب موسكو من طهران، ومن تل أبيب، منع التصعيد في لبنان، نظرا إلى حساسية العلاقة الروسية الإيرانية في سورية. فالدولتان في حاجة بقوة إلى روسيا المهتمة بمنع الانزلاق إلى حرب لن ينجو منها المسرح السوري، حيث لها قوات منتشرة على الأرض في أكثر من منطقة. وهي من الحالات القليلة التي تتقاطع فيها مصلحة موسكو مع رغبة واشنطن بعدم التصعيد، لاسيما قبل الانتخابات الإسرائيلية في 17 أيلول (سبتمبر). كما على إيران مراعاة موقف شريكيها الروسي والتركي في قمة دول أستانا في 19 أيلول في أنقرة، بعد تفاهمهما على المنطقة الآمنة وإدلب قبل يومين.