وليد شقير
هل ينجح الإجماع اللبناني النادر الذي نشأ حول الجيش في مواجهته مع المجموعات التكفيرية والإرهابية السورية في بلدة عرسال، في إنقاذه من حرب استنزاف متوسطة، أو طويلة الأمد مع هذه المجموعات التي أرادت فتح الحدود بين لبنان وسورية أسوة بفتحها الحدود بين العراق وسورية في مطلع حزيران (يونيو) الماضي؟ وهل يُعين الدعم الدولي والإقليمي للقوات المسلحة الشرعية، ولا سيما الدعم السعودي الاسثنائي بهبة البليون دولار أميركي على تفادي استنزافها، مثلما يحصل في العراق بعد احتلال «داعش» الموصل ومناطق أخرى؟
انشغل الوسط السياسي اللبناني بهذا السؤال المقلق، نظراً إلى أن احتلال هذه المجموعات المفاجئ لعرسال السبت الماضي، وارتكابها شتى أنواع ممارسات الشراذم الشاذة، ضد العسكريين والمدنيين اللبنانيين، وتوريطها عشرات آلاف النازحين السوريين بعداء مع مضيفيهم العرساليين، وضع الحدود اللبنانية - السورية المفتوحة، أمام احتمالات خطيرة.
في لحظة أُجبر الجيش اللبناني على تحمل وزر جديد من أوزار فتح الحدود بين لبنان وسورية الذي مارسته شراذم فوضوية مساندة للثورة السورية عند بداية عسكرتها، و»حزب الله» الذي انغمس في مساندة النظام على نطاق واسع بآلته العسكرية الاحترافية، برعاية إيرانية، منذ بداية الحرب في بلاد الشام.
سبق للبنان، وقبله العراق وسورية، أن وقع ضحية فتح الحدود بين طهران وبغداد ودمشق والبقاع اللبناني بسبب ردود الفعل على قرار إيران جعل هذه الدول ساحة واحدة في مشروع تمدد نفوذها الإقليمي. فقد استبيحت حدوده ذهاباً وإياباً دفاعاً عن نظام الممانعة، فسقط للحزب حتى الآن خيرة من شبابه وفتيانه في حرب لم يكن يتوقع أن يغرق في مستنقعها. وتعرض المدنيون الأبرياء في مناطق تحت سيطرته منذ ربيع عام 2013 للسيارات المفخخة والتفجيرات الانتحارية. ثم أقنع الحزب نفسه وجمهوره أنه تمكن من إقفال الحدود على ردود الفعل ضد استباحتها من قبله، بعد طرده مسلحي المعارضة من منطقة القلمون في نيسان (أبريل) الماضي. إلا أن هؤلاء ما لبثوا أن عادوا إليها، ليفتحوا الحدود على طريقتهم، من الباب العرسالي، في وقت كانت محاولاتهم السابقة تقتصر على اختراقها بالأعمال الإرهابية.
مقابل استحالة إقفال الحدود على إيران و»حزب الله» في البقاع الشمالي، على رغم إعلان بعبدا بتحييد لبنان وسياسة النأي بالنفس، فإن إقفالها على «داعش» في العراق وسورية تعذر نتيجة انهيار الدولة المركزية والجيش في الدولتين، وتحولهما إلى أدوات فئوية ومذهبية. الأمر مختلف في لبنان، حيث الإجماع على الجيش على رغم هشاشة الدولة فيه، يبقيه المؤسسة الوحيدة الباقية، القابلة لتوحيدهم في ظل شبه الشلل الذي يتحكم بسائر مؤسساته الدستورية الأخرى التنفيذية والتشريعية والرئاسية.
في سورية وقع الشعب السوري بكل أطيافه ضحية فتح الحدود، من جانبي الصراع الهمجي: النظام والمتطرفين الإسلاميين الذين سهّل النظام لهم كسب بعض الأرض لإثبات مقولته إن معارضيه إرهابيون... بل إن المعتدلين من المعارضة كانوا هم أيضاً الضحية. وفي العراق وقع المسيحيون ومعهم سائر الأقليات، ضحية هذه السياسة التي ارتقت إلى مستوى الإبادة فيما غرقت الدولة وأجهزتها بالمذهبية والإقصاء، ما عطّل وظيفتها بحمايتهم. وامتنع الخارج عن دعمها في مواجهة «داعش» بحجة استفادة النفوذ الإيراني من هذا الدعم.
في لبنان، وعلى رغم اعتقاد كثيرين بأن الحدود تُركت سائبة نتيجة حاجة «حزب الله» العسكرية للتدخل في سورية، فشلّت قدرة الجيش على ضبطها، وعلى رغم أن الجيش النظامي السوري دفع بمسلحي القلمون إلى الداخل اللبناني لينقل مشكلة التخلّص منهم إليه، فإن التركيز الدولي والإقليمي، ولا سيما السعودي، على إبقاء الجيش نقطة الالتقاء بين اللبنانيين على عنوان الدولة، يتيح عدم وقوع الساحة اللبنانية بما وقعت به الساحات الأخرى.
على رغم الأسئلة الكثيرة عن كيفية اقتحام مسلحي «النصرة» و»داعش» عرسال، تحت عيون الحزب الذي يفاخر بسيطرته والجيش على الحدود، وحول الأهداف السياسية المحلية والإقليمية لما حصل، خصوصاً أن هؤلاء لم يدخلوا البلدة خلسة أو تسللاً، بل بالمئات إن لم يكن بالآلاف، فإن فريقاً من الطيف السياسي اللبناني ولا سيما رئيس تيار «المستقبل» سعد الحريري تجاوز هذه الأسئلة واتهامات الحزب إليه بأن تياره حاضن للظواهر السنّية المتطرفة، وأمّن بصفته الزعيم السنّي الأقوى التغطية الكاملة للمواجهة التي تخوضها المؤسسة العسكرية مع هؤلاء. بل إن الحريري، مع اقتناعه الكامل بأن إبقاء الحزب الحدود مشرّعة، اجتذب المتطرفين إلى لبنان، فإنه والمملكة العربية السعودية تصرفا كرأس حربة في مواجهة المجموعات التكفيرية. وتجاوزت السعودية حاجة الحزب إلى حجب الأنظار عن مشاركته في الحرب إلى جانب النظام السوري، وقدمت المساندة للدولة لا لجهة فئوية. (فئوية الحكومة في العراق وسورية حالت دون دعمهما).
ألم يحن الوقت كي يراجع «حزب الله» ومن ورائه إيران سياسة القفز فوق الحدود، أم أنه سيوظف دعم الآخرين للجيش على أنه يخفف عنه حال الاستنزاف بحيث يشاركه فيها أو يتحمل عنه وزرها أيضاً فيتآكل بذلك دوره الجامع مع الوقت؟