حسن نافعة
ارتكبت جماعة الإخوان المسلمين أخطاء لا تعد ولا تحصى، بسبب المبالغة فى تقدير قوة الذات، والاستهانة بقوة الخصم. وقد بلغ جنوح الجماعة فى تقدير قوتها الذاتية حداً دفعها للاعتقاد بأن الظروف المحلية والدولية باتت مواتية لفرض هيمنتها المنفردة على مقاليد الدولة والمجتمع فى مصر، دون مقاومة تذكر، كما بلغ بها الجنوح فى التقليل من قوة الخصم حداً دفعها للتصرف وكأن قوى المعارضة غير موجودة أصلاً. ولم يكن إحساسى الشخصى بفداحة تلك الأخطاء نابعاً من انطباعات عابرة بقدر ما كان نابعاً من قناعة استخلصتها من تجربة شخصية مباشرة، فقد أتيح لى أن أدخل فى مناقشات واسعة النطاق مع قيادات إخوانية عديدة، شغل بعضها مواقع حساسة وقريبة من مراكز صنع القرار، بعد فوز الدكتور مرسى فى الانتخابات الرئاسية. وعندما كانت هذه المناقشات تحتدم وتتطرق إلى قرارات أو سياسات أستشعر خطورتها، وأنبه، من ثَمَّ، إلى عواقبها وتأثيراتها السلبية المحتملة، كانت الإجابة التى أسمعها تبدو لى جاهزة ونمطية ومن النوع المعلب: «لا تقلق، فالأمور تحت السيطرة، والجماعة تدرك وتعى ما تفعل وتتحسب لكل العواقب». وعندما كنت أجادل بأن ردود الأفعال المتوقعة قد تكون غير قابلة للسيطرة، كنت أقابل بابتسامة ساخرة تعكس ثقة مفرطة فى النفس، مصحوبة بإجابة تبدو جاهزة ونمطية ومعلبة أيضا: «لا تقلق، فالمعارضة لن تستطيع أن تفعل شيئاً، وإذا استطاعت أن تحشد ألفاً فسيكون بمقدورنا أن نحشد عشرة آلاف، وإذا استطاعت أن تحشد مليوناً فسيكون بمقدورنا أن نحشد أضعاف هذا الرقم».
أعتقد أن هذه المبالغة فى الإحساس بالذات وفى الاستهانة بالخصم حالت دون تمكين الجماعة من الاكتشاف المبكر للأخطاء المرتكبة، وأدت إلى الاستهانة بالتحذيرات من العواقب المحتملة لهذه الأخطاء، وتسببت، بالتالى، فى حالة المكابرة والعناد التى تسلطت على الجماعة، وأدت إلى إصرارها على الاستمرار فى فرض سياسة الهيمنة المنفردة إلى أن وقعت الواقعة، وتم عزل أول رئيس إخوانى فى تاريخ مصر، بعد عام واحد على توليه.
لم تستطع الجماعة فى الواقع أن تميز بين قوتها التنظيمية، التى لا ينكر أحد فعاليتها، خصوصاً إذا ما قورنت بمثيلتها عند الأحزاب والحركات السياسية الأخرى، وبين قدرتها التأثيرية على الجماهير، فحتى وقت قريب كانت الجماعة تتمتع بالحسنيين: قدرة تنظيمية جبارة، وتعاطف جماهيرى واضح فتح أمامها الطريق لممارسة شؤون الدولة والحكم، بدليل حصولها منفردة على حوالى 45% من إجمالى مقاعد البرلمان، فى أول انتخابات تشريعية تجرى بعد الثورة، غير أن مظاهر العجرفة التى بدت على الجماعة، منذ ذلك الحين، وقرارها المفاجئ بالتنصل من تعهد كانت قد قطعته على نفسها بعدم خوض انتخابات الرئاسة، كانا من بين عوامل أخرى كثيرة أثارت القلق لدى المواطنين.
لم تتوقف الجماعة بما فيه الكفاية عند دلالة فوز هزيل حققه مرشحها فى الانتخابات الرئاسية بفضل أصوات لا تنتمى إليها سياسياً أو أيديولوجياً. وبدلاً من أن يدفعها ذلك إلى الانفتاح على القوى السياسية التى أبدت استعداداً للتعاون معها، من أجل التأسيس لنظام ديمقراطى حقيقى، اعتبرت أن الفرصة باتت سانحة أمامها لإحكام هيمنتها المنفردة على شؤون الدولة والمجتمع، فبدأ الدكتور مرسى يتنكر لوعوده السابقة بأن يكون رئيسا لكل المصريين، وسعى جاهدا إلى تهميش كل القوى الأخرى، بما فى ذلك القوى التى صوتت له فى الانتخابات أو أحجمت عن منح أصواتها للفريق شفيق، وهكذا راحت القرارات الكارثية تتوالى: قرار إعادة مجلس الشعب المنحل الذى أدى إلى صدام مباشر مع المحكمة الدستورية العليا، وإصدار إعلان دستورى يمنح به لنفسه سلطات شبه إلهية مكنته من تحصين قراراته فى مواجهة القضاء، وإقالة النائب العام، وتحصين الجمعية التأسيسية ومجلس الشورى اللذين كانا على وشك الحل، فاتحاً بذلك الطريق أمام صدور دستور مختَلف عليه، ومنح سلطة التشريع لمجلس لم ينتخب أصلا لهذا الغرض.
كانت هذه الإجراءات غير الديمقراطية جميعاً لحشد وتعبئة وتوحيد كل القوى المعارضة للجماعة. والأهم من ذلك أن الجماعة لم تنتبه بما فيه الكفاية إلى مدى التآكل فى شعبيتها لدى المواطن العادى، أى عند المواطن غير المنخرط فى أحزاب أو حركات سياسية رسمية، إما بسبب الارتباك الحادث فى إدارة مؤسسات الدولة، أو بسبب عجز الحكومة عن إيجاد حلول للمشكلات التى يواجهها المواطن العادى فى حياته اليومية، فقد بدأ المواطن العادى يكتشف تدريجيا أن الجماعة ليس لديها من الكفاءات والخبرات ما يُمَكِّنها من إدارة أفضل للشأن العام، بل على العكس تماما، وأن حكومة الجماعة تبدو عاجزة عن إيجاد حلول لما يعانيه المواطن فى حياته اليومية، كما لم يكن بإمكانها حتى أن تمنحه أملا فى أن هذه المشكلات يمكن أن تجد حلولا فى المستقبل القريب.
مع تصاعد المعارضة والاحتجاجات فى الشارع بدت المطالب فى البداية محدودة: تغيير الحكومة، وإشراك قوى المعارضة فيها حتى يمكن الاطمئنان إلى نزاهة الانتخابات البرلمانية المقبلة، وتعيين نائب عام جديد يرشحه المجلس الأعلى للقضاء. وعندما ركبت الجماعة رأسها، ورفضت الاستجابة إلى أى من هذه المطالب، بدأت تظهر مطالب جديدة بسحب الثقة من الرئيس، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وهى المطالب التى تبنتها حركة «تمرد». ولولا تخلى الكتلة غير المنظمة من المواطنين، وهى الكتلة التى يطلق عليها فى علم السياسة اصطلاح «الأغلبية الصامتة» عن الجماعة لما التف الناس حول حركة «تمرد»، ولماتت هذه الحركة فى المهد كفقاعة صغيرة، أى أن تخلى الحاضنة الشعبية عن الجماعة هو الذى أدى فى النهاية إلى عزلها جماهيريا، وتمهيد الطريق نحو الخروج الجماهيرى الكبير فى 30 يونيو، للمطالبة بسحب الثقة من الدكتور مرسى، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وهو الخروج الذى أدى فى نهاية المطاف إلى عزل الرئيس، وطرح خارطة طريق لمرحلة انتقالية جديدة يفترض أن تنتهى بانتخاب رئيس جديد للبلاد.
وبدلاً من اعتراف الجماعة بالأخطاء التى ارتكبتها، والقيام بالمراجعات التى تساعدها على تصحيح تلك الأخطاء، وتبنى استراتيجية تقوم على الحوار والمصالحة، كى تضمن لنفسها موقع ومكانة الشريك الفعال مع الجماعة الوطنية فى صناعة المستقبل، بدلا من موقع المهيمن أو الوصى الوحيد، اختارت الجماعة استراتيجية مواجهة تقوم على العناصر الآتية: 1- محاولة الإيحاء بأن ما حدث هو مجرد انقلاب عسكرى غير شرعى تم لحساب «فلول النظام السابق»، واستهدف إعادة شبكة مصالحه القديمة إلى موقع السلطة والنفوذ، وأن الأخطاء التى وقعت فيها الجماعة وتعترف ببعضها لا تبرر ما حدث. 2- حشد وتعبئة الأعضاء والأنصار والحلفاء، ودفعهم للخروج إلى الشوارع والميادين فى مظاهرات احتجاجية، لإثبات أن الجماعة لاتزال تتمتع بالشعبية الجماهيرية الأكبر، وأنها لاتزال تحظى بالأغلبية التى تمنحها شرعية الحكم. 3- الإصرار على المطالبة بالإفراج عن الدكتور مرسى، وإعادته إلى السلطة من جديد، باعتباره الرئيس الشرعى للبلاد. 4- استغلال الاحتكاكات المتوقعة أو المحتملة مع أجهزة الأمن أو رجال القوات المسلحة، والتى قد تقع بسبب استفزازات متعمدة أو مشاعر غضب وهياج تنتاب البعض، خصوصا إذا ترتبت عليها إسالة دماء غزيرة، لتقمص دور «الضحية» و«المظلوم»، وإزاحة صورة «الفاشل» أو «المهزوم» التى كانت قد بدأت ترسخ فى أذهان الكثيرين، اعتقاداً منها أنها تستطيع بذلك تغيير الأمر الواقع، واستعادة زمام المبادرة.
وتنطوى هذه الاستراتيجية، فى تقديرى، على مخاطر كبيرة ليس فقط على الوطن ولكن أيضا على الجماعة نفسها، فالاعتقاد بأن بمقدور الجماعة إعادة الدكتور مرسى إلى السلطة من خلال ضغط الشارع ليس سوى وهم كبير لا مكان له إلا فى عقول القيادة الحالية للجماعة، التى فشلت فشلا ذريعا فى انتهاز فرصة أتيحت أمامها، لإعادة الاعتبار للجماعة، وتصحيح تاريخها، والعمل على إعادة دمجها فى الحركة الوطنية كشريك وليس كمهيمن، فالإصرار على تحريك الشارع قد يؤدى إلى مواجهة دموية مع الجيش، وهو ما تسعى إليه قوى عميلة فى الداخل وقوى إقليمية ودولية فى الخارج.
ولأن مواجهة كهذه، والتى لن يقف فها الجيش وحيداً، وإنما سيكون مدعوماً بالكامل من جانب الشعب، لن تكون فى صالح الجماعة أبدا، أظن أنه بات محتماً على الجماعة أن تتبنى استراتيجية بديلة.
أظن أن هناك أطرافاً فى الداخل والخارج تريد أن تتحين الفرصة لاستئصال الجماعة ومحوها من الوجود تماما، بدعوى أن الأحداث أثبتت أنها أصبحت عبئاً على الوطن آن أوان التخلص منه، فلا هى نجحت فى قيادة الوطن نحو بر الأمان، حين أتيحت أمامها الفرصة، ولا هى تريد للوطن أن يستقر كى تغطى على عجزها وفشلها، لذا آمل أن ينتصر صوت العقل داخل الجماعة، وأن تتغلب لغة الحوار على لغة المواجهة، وأظن أنه مازال هناك دور تستطيع الجماعة أن تقوم به للمشاركة فى إدارة المرحلة الانتقالية الراهنة وفقا لخارطة طريق جديدة نأمل فى أن تنجح فى التأسيس لنظام سياسى يتسع للجميع، وليس نظاماً مصنوعاً على مقاس طرف أو تيار بعينه.
نقلا عن جريدة المصري اليوم