بقلم - أسامة غريب
لا أنسى أحد الأصدقاء الكنديين وكان جارا لى بمونتريال.. هذا الرجل خفيف الظل عرفته كموزع بريد على دراجة وجمعتنى به جلسات مسائية فى المقهى. لقد أذهلنى هذا الصديق عندما حكى لى عَرَضا أنه كان يعمل كطيار بشركة «إير كندا» لمدة عشر سنوات على طرازات مختلفة من الطائرات، لكنه ترك شركة الطيران بسبب عدم انتظام ساعات نومه ويقظته وضياع مناسبات اجتماعية من حياته لكثرة السفر، وكذلك بسبب حبه للانطلاق بالدراجة وتوزيع البريد وتبادل القفشات مع الناس فى الشارع!.
تسمرت عندما سمعت منه هذا الكلام وسألته عن دخله المادى وهل تأثر من تغيير المهنة فأخبرنى بأن احتياجاته محدودة وراتبه من توزيع البريد يكفيه. وقتها تساءلت بينى وبين نفسى إذا كان هناك فى مجتمعنا من يملك الشجاعة ليفعل شيئا كهذا؟ لا أظن أن هذا ينفع فى بلادنا، حيث قيم المجتمع تقسم العمل إلى راقٍ ومتواضع، وطبقتنا الوسطى تستعلى على الحرف والمهن اليدوية.
ولذلك ليست هينة أبدا قدرة المجتمع على وأد أحلام الشباب فى اختيار المهنة التى يريدها، ودائما سيجد الشاب من يذكّرونه بأن الميكانيكى مثلا لن يستطيع الزواج من ابنة إحدى الأسر الكبيرة.
وفى واقع الأمر فإن الأهل وهم يفعلون هذا إنما يستندون إلى واقع مجتمعى يكرس الطبقية ويضع العصا فى عجلة الحياة ليفرمل انطلاقها لآفاق رحبة. معوقات مجتمعية كثيرة تقف دون تحقيق الناس لأحلامها، فمثلا أين هو الأب الذى يوافق ابنه على أن يكتفى من الدراسة بقدر معين ليعمل بورشة نجارة كما يهوى؟ إذا كان الأب غنيا ميسور الحال فسوف ينظر لولده على أنه مجنون يريد أن يهبط اجتماعيا بمستوى الأسرة، وإذا كان من أسرة فقيرة فسيعتبره أبوه مجنونا أيضا لأنه يرفض الصعود الاجتماعى وشد الأسرة معه لأعلى بأن يصبح مهندسا أو طبيبا أو ضابطا.
ولو جرؤت فتاة على الإعراب عن حبها لمهنة التمريض ورغبتها فى أن تصير ممرضة مثلا، وهى حاصلة على مجموع كبير بالثانوية، فستقف الدنيا كلها فى وجهها ولن تسمح لها الأسرة بأن تفعل ما يعتبرونه خللا فى التفكير ولسوف يدفعونها دفعا لدخول كلية الطب بمظنة أن الممرضة أقل قيمة من الطبيبة.. وقد بلغ الشطط بمجتمعاتنا أن كليات مثل الزراعة والخدمة الاجتماعية مثلا لا يمكن أن تكون الرغبة الأولى لأى طالب فى استمارة الرغبات!.
وطبيعى أن هذه الأفكار تجعل أعمالا معينة غير مرغوب فيها ولا يقبلها الشاب إلا تحت ضغط الحاجة ولهذا تجده يمارسها وهو متأفف متحينا الفرصة للفرار منها إذا تغيرت الظروف حتى يحظى من المجتمع بالتقدير الذى أضاعته الوظيفة البسيطة!. والواقع أن الناس فى البلدان الديمقراطية التى تحترم البشر وترعى حقوق الإنسان بصرف النظر عن جنسه ودينه ومهنته هم أكثر حرية فى الاختيار ويمكن للواحد منهم أن يكون ما يشاء دون أن يفقد حقه فى الاحترام والكسب والحب والزواج.