بقلم - أسامة غريب
يقال إن أعذب الشعر أكذبه، ويمكن أن تنطبق هذه المقولة على معظم ما بين أيدينا من أشعار، ومن ضمنها أشعار عبد الرحمن الأبنودى، الذى كثيرًا ما سحرنا بأقوال لم يكن يعنيها ولا يصدقها. غير أن هناك مرة من ذات المرات كتب الأبنودى أغنية وكأنه اجترحها من نبض قلبه، وكان وقتها يعيش حالة حب مع السيدة نهال كمال التى أصبحت زوجته وأم ابنتيه.
هذه الأغنية العجيبة اسمها «قبل النهاردة»، وقد لحنها وغناها عمار الشريعى قبل أن يقدمها لوردة الجزائرية. فى كثير من اللقاءات التليفزيونية قال الأبنودى إنه قدم هذه الأغنية مهرًا للفتاة الجميلة التى وافقت عليه، وكان وقتها كهلًا فى الخمسين، وفى الحقيقة لم أفهم كيف تم الاحتفاء بهذه المقولة كما لو كانت تنم عن السلوك الرومانسى الرفيع، إلا لو كان المقصود هو السلوك الرفيع من جانب العروس!.
كانت الفرحة والسعادة تتناثر من بين السطور، معبرة عن حالة هزت الشاعر وأفقدته من فرط النشوة القدرة على المجاملة والمواءمة. حدث هذا حين تبرأ الأبنودى من الخمسين سنة الأولى من حياته بكل ما فيها من كفاح وصعود ومشاعر وأفراح وصداقات وزواج. فى البداية يقول: «أنا ياما قلت خلاص وقلت فات الوقت. أتارى عمرى يا ناس بيبتدى دلوقت. وكأنى أول مرة باتبسّم.. وكأن عمر القلب ما إتألم».
يتضح هنا الحب الذى هاجم الرجل بينما كان يظن أنه فى طريقه لاختتام حياته على ذات النمط الذى لازمه عشرات السنين، فإذا بمشاعر لم يألفها تقلب كيانه لدرجة أن يقول: «وكلمة قلتها قبل النهاردة ماهيش صوتى وأنا ماقلتهاش. وأيام عشتها قبل النهاردة ماهيش عمرى وأنا ماعشتهاش. حبيبى معاك يا حبيبى عرفت أرتاح وأهدَى.. وقبلك دنيتى يا حبيبى أنا ماعرفتهاش.
وقبلك كله مش محسوب علىّ.. وقبلك ضاعت الأيام بلاش». يلاحظ أن هذه المعانى رأينا ما يشبهها فى أغانى حسين السيد ومرسى جميل عزيز، لكننا كنا نعرف أنها مجرد أكل عيش، أما هنا فلقد أشهد الأبنودى العالم على قصة حبه، ولم يشأ أن يعيشها فى الخفاء أو فى حدود العائلة والأصدقاء.
ولقد كانت اللقاءات الصحفية والتليفزيونية التى تناولت الأغنية وقصة الحب خلفها جزءًا من الإشهار والإعلان الذى أراده الشاعر أن يكون صاخبًا، وكأنه يقطع صلته بالدنيا التى كان جزءًا منها فى السابق.. دنيا السهر والصعلكة وتجربة السجن وكتابة الأغانى بثلاثة تعريفة وملازمة أهل اليسار الشيوعى.
كل هذا أراده الشاعر أن ينتهى ليبدأ حياة عادية ليس بها ملامح نضالية، لكن بها سعادة الناس الطبيعيين الذين يتزوجون وينجبون ويُخلصون للبيت والأسرة. يكمل الأبنودى: «حبيبى الفرحة لما جيت وجاتنى. نسيت م الفرحة أندم ع اللى فاتنى. وليه أندم وإمتى أندم وإنت.. فى يوم ما باعتنى أيامى اشتريتنى. وردّيت اللى ضاع منّى ف ثوانى. وخليتنى كأنى حد تانى. ده مافيش للفرحة تانى مكان فى قلبى. وكأن الفرحة مخلوقة عشانى».
صحيح أن أعذب الشعر أكذبه، لكن هذه الأغنية الصادقة استثناء يغفر للشاعر أكاذيب شعرية كثيرة.