بقلم - أسامة غريب
جربت ذات مرة الاشتراك في رحلة تطوف عدة بلدان أوروبية مع غرباء قدموا من أماكن مختلفة ولا أعرف منهم أحدا. بدا الناس في أول يوم متوجسين من بعضهم البعض، ومع هذا أمكننى ملاحظة أن كل واحد كان يختلس النظر إلى الآخرين يحاول أن يسبر أغوارهم من بعيد!.
ليس مستغربا طبعا أن يكون الجانب الأكبر من أعضاء الرحلة من العواجيز الطاعنين في السن، بعضهم تخطى التسعين والكثير منهم فوق السبعين، ولا عجب في هذا إذ إن الناس في بلاد برة يعملون بجد طوال فترة الشباب حتى إذا تقاعدوا بدأوا برنامجا للسفر والتمتع بالفرجة على الدنيا. ويلاحظ قلة عدد الشباب في مثل هذه الرحلات، حيث إنه يناسبهم أكثر الصعلكة الرخيصة والإقامة في بيوت الشباب مع من في سنهم دون برنامج منظم يلزمهم بالاستيقاظ كل يوم مع مطلع الفجر. يستمر الناس يرقبون بعضهم بعضا في صمت.. حتى وهم يجلسون إلى مائدة الطعام متجاورين لا يتبادلون سوى ابتسامات متكلفة. كان الحذر هو سيد الموقف في أول يومين لأناس لا يريدون الاندفاع في صداقات قد لا يستطيعون الفكاك منها لبقية الرحلة، لدرجة أنه عندما تم تخييرهم بين الاشتراك في عشاء جماعى بأحد مطاعم المدينة أو تركهم أحرارا في ذلك المساء فإنهم فضّلوا أن يكونوا مع أنفسهم!.
ولكن مع مرور الوقت لاحظتهم قد أخذوا على استحياء في الإطلال برؤوسهم خارج القوقعة ليروا ما يحدث في القواقع المجاورة، ويمكن للراصد هنا أن يلمس أن ثمة تغييرا قد حدث وأن البعض لن يمانع إذا ما أخذ أحدهم المبادرة بالتعارف.. ورويدا رويدا يتشجعون وتجد من يأخذ في تقليب عينيه بشكل أسرع حتى يعثر على رفاق من نفس نوعيته بعدما دخلت الرحلة في الجد وهو لم يصاحب أحدا بعد!. وفى العادة يكون الأسرع في المبادرة هم المتقدمون في السن ربما بسبب أنهم يشعرون أكثر من غيرهم أنه لم يتبق الكثير الذي يسمح بالتلكؤ!. وغالبا تكون بدايات كسر الجليد بالميل نحو قائد الفوج الذي يصاحب المجموعة طوال الوقت بالشرح والتعليق، ثم يبدأ الأوروبيون منهم بالاقتراب من بعضهم البعض، ويحذو حذوهم الآسيويون من ماليزيا وسنغافورة واليابان فيأخذون في التجول وارتياد المحال التجارية معا. ينظر العربى الوحيد حوله فيجد العواجيز هم الأميل للتنازل والتعامل معه فيفهم أن مهمته في مثل هذه الرحلات هي الأكثر صعوبة إذا كان راغبا في عقد صداقات، لكن من حسن حظه أنه كان زاهدا في البشر في تلك الفترة وراغبا في الوحدة وسط الناس!.
يبدأ أفراد مجموعة الرحلة بمرور الوقت في نسيان الحذر والتغلب على الخجل، ثم يستأنسون بالاختلاط والقرب، وبعد قليل يركلون القوقعة وينفتحون على بعض ويتبادلون التليفونات والإيميلات بعد أن تزول المخاوف، ويدرك كل واحد أن الآخرين لن يؤذوه.. لكن يا خسارة.. بعد أن تكون الرحلة قد شارفت على الانتهاء وحان أوان الوداع!.