بقلم : أسامة غريب
المواجهة التى جرى نقلها على الهواء من البيت الأبيض بين ترامب ونائبه من جهة وبين زيلينسكى كانت فى حقيقتها بين الرئيس الأمريكى وقادة الاتحاد الأوروبى، وقد كان الرئيس الأوكرانى مندوب أوروبا فى تلك الجلسة العجيبة. أدرك ترامب مبكرًا ما يرمى إليه الأوروبيون، فبعد أن أرسلوا إليه ماكرون الذى جلس فى حضرته مؤدبًا وشاركه الضحك على قفشاته الغليظة ثم أرسلوا إليه كير ستارمر، رئيس الوزراء البريطانى، الرزين، الذى حاول الحديث فى السياسة بعيدًا عن التهتك، لدرجة أن ترامب لم يجد ما يقوله له سوى أن يُثنى على لغته الإنجليزية..
ثم أرسلوا إليه زيلينسكى على أمل أن يكون حجمه الضئيل مع زيه الكاجوال شفيعًا له عند وحش البيت الأبيض، لكن فاتهم أن ترامب لا تؤثر فيه هذه الحركات ولا ينخدع بحكاية استحقاق زيلينسكى للاحترام كمحارب، فهو لا يحترم المحاربين، لكن يحترم فقط القادرين على تخريب صفقاته. لهذا فقد قام كهنة البيت الأبيض باستغلال قدومه حتى ينفذوا ما اعتزموا تنفيذه سلفًا. من المعروف أن ترامب يهين ضيوفه ويسخر منهم، بل يوجه إليهم شتائم مباشرة، لكنه يفعل هذا فى الغالب فى الجلسات المغلقة بعيدًا عن الكاميرات، ولا نستنتج ما حدث بالداخل إلا بعد الخروج لمواجهة الصحفيين ورؤية الضيف غارقًا فى العرق والخجل والتلعثم، وتفضحه اختلاجات الوجه وارتعاشات العينين، وعدم القدرة على صياغة الجمل ذات المعنى، أما بالنسبة لزيلينسكى فقد قرروا أن يُجلسوه كالتلميذ الخائب، ثم ينهالوا عليه باللوم والتقريع العلنى، والواقع أننا يمكن أن ننظر للمشهد من خلال أكثر من منظور، فهناك صورة المقاتل الذى يدافع عن بلده ويرفض الخضوع لابتزاز رجل يريد منه توقيع صك الاستسلام «من سكات» ودون مقاومة، وهناك صورة المغفل المخدوع الذى ظن أن انخراطه فى المخطط الأمريكى لتحطيم روسيا قد يمنحه أفضلية دائمة، ثم اكتشف أنه أقل من بيدق شطرنج فى اليد الأمريكية، وهناك صورة الأوروبى الأبيض الذى يستطيع أن يأخذ ويعطى مع ترامب فى ندية، على العكس من أفارقة وآسيويين وشرق أوسطيين يكتفون فى حضرة الرجل الكبير بهز الرؤوس والابتسام المتكلف فى ذعر!.
فى كل الأحوال فإن زيلينسكى قد أضاع بلاده حتى لو وقفت معه أوروبا وحاولت جبر ضعفه ورتق الثقوب التى عاد بها من واشنطن، ففى ظل اتفاق واضح ينوى ترامب الوصول إليه مع بوتين، فإنه لم يتبقَّ الكثير لأوروبا لتفعله بعد أن دفعها بايدن فى سكة العداء الشامل للروس، حتى ومصالحهم تتحطم خلال ذلك العداء، ثم جاء ترامب ليلومهم على الانقياد إلى بايدن الغبى كما يسميه، ويطلب منهم أن يتراجعوا عما أنفقوا فيه الكثير من الموارد، ويقبلوا بما يقرره اليوم. مسكينة القارة الأوروبية التى وضع قادتها ومفكروها التاريخيون أسس السياسة الدولية والدبلوماسية التى يتغير من خلالها الحُكّام ولا تتغير الثوابت السياسية والاستراتيجية، فإذا بهم يفاجأون بأمريكا التى أسلموها قيادهم تنتقل من الأبيض إلى الأسود فى غمضة عين بتغير الرئيس الأمريكى.