من شـرفة على نهر «الهان»

من شـرفة على نهر «الهان»

من شـرفة على نهر «الهان»

 العرب اليوم -

من شـرفة على نهر «الهان»

عريب الرنتاوي

من شرفة على نهر “الهان”، أطل من غرفتي في فندق “كونراد” على مشهد بانورامي لمدينة سيؤول، عاصمة كوريا الجنوبية ... ومن الطابق الثاني عشر، في النزل المكوّن من أربعين طابقاً، تبدو الصورة أعم وأشمل، فأنت في مدينة لا تكاد تميزها عن مدن العالم وحواضره الكبرى، ولولا اصطدامك بالحرف الكوري حيثما حللت وارتحلت، لظننت للوهلة الأولى أنك تجول في مدينة أوروبية أو أمريكية كبرى.
“الهان” ليس أكبر الأنهار في كوريا ولا أطولها، لكنه منح المدينة مناظر خلابة، ومساحات طبيعية تفتقدها المدن الحديثة بالعادة، وزادت الجسور العريضة والعملاقة التي تربط شطري المدينة بعضها ببعض، من جمال المشهد وهيبته ... لا جسر بمسرب أو مسربين، عشرة مسارب على الأقل، فمن عمل على تأسيس البنية التحتية للعاصمة، كان كريماً وسخياً، أو بالأحرى، كان ذا بصر وبصيرة.
استرجع وأنا أتفحص هذا المشهد العمراني المهيب، صوراً احتفظ بها في ذاكرتي، لشرفة على نهر “النيل”، من فندق سمير أميس – الانتركونتننتال في القاهرة ... المدينة التي لا تنام، وتكاد تختنق بملانييها الكثيرة، بالمناسبة سيؤول مدينة لا تهدأ ولا تنام، وملايينها تكاد تعادل ملايين القاهرة، لكنها لا تشعر بالاختناق أبداً، بل تتنفس بملء حريتها وصدرها.
على مقربة من “كونراد”، الذي تحيط به غابة من البنايات الزجاجية شاهقة الارتفاع، أتوقف أمام مبنى قديم، من عدة طبقات فقط، لم تصله بعد، رياح الحداثة والعصرنة، أسأل عن المبنى الذي يضم حوانيت ومحالات متواضعة، فيقال لي أنه من “جيل الستينات”، لم تصله بعد، موجة التحديث التي أحالت المدينة خلال نصف قرن فقط، من بلدة شبه زراعية، متخلفة، إلى واحدةٍ من حواضر الكون ... تداعت الصور في ذاكرتي، فرأيت في هذا المبنى المتواضع، صورة عن معظم مباني القاهرة التي كنت على موعد معها، قبل عام فقط، أو أقل قليلا.
أعود إلى “مرشدي الأعلى”، الأستاذ “غوغل” لاستنطقه بحثاً عمّا يمكن أن ينعش الذاكرة، ويجلي الصورة، فتأتي النتيجة مفجعة للغاية: فى عام 1965 بلغ الناتج المحلى الإجمالى المصرى نحو 5.1 مليار دولار، بينما كان نظيره في كوريا الجنوبية ثلاثة مليارات دولار فقط، أي بأزيد قليلاً عن نصف الناتج المحلي الإجمالي المصري.
اليوم، تقدمت كوريا الجنوبية وتأخرت مصر، الأولى بناتج قومي إجمالي يلامس ضفاف التريليون ونصف التريليون من الدولارات، والثانية، بأقل من ربع هذا المبلغ، مع أن عدد سكان مصر، أقل قليلاً من ضعف عدد سكان كوريا الجنوبية... ويهبط تبعاً لذلك، متوسط دخل الفرد المصري إلى ثلاثة آلاف دولار  أو أكثر قليلاً، مقارنة مع 26 ألف دولار معدل دخل الفرد الكوري الجنوبي، وفقاً لأرقام العام 2013.
لم يُردد أحدٌ في سيؤول عبارة “كوريا هبة الهان”، مثلما تتردد من دون كلل أو ملل عبارة “مصر هبة النيل” ... هنا سيقول لك إن كوريا هي “هبة هونداي وسامسونج”، في بلد قفز خلال خمسة عشريات من السنين فقط، من بلد زراعي مفقر ومستعمر، إلى بلد يجلس على قدم المساواة، مع الـ 15 الكبار على رأس الاقتصاد الصناعي العالمي، وتنافس جامعاته على مقاعد لها من بين “المائة الكبار” في العالم.
نتجادل مع أصدقاء وزملاء في أسباب المعجزة الكورية، ودائماً بالمقارنة مع مصر عربياً، والشطر الشمالي لشبه الجزيرة الكورية آسيوياً .... مصر خاضت حروباً مع إسرائيل، وكوريا خاضت حروباً مع “الشمال”، ولمدة ثلاثة أعوام ... مصر خضعت لاستعمار لا يرحم، وسيؤول تزخر بالمتاحف التي توثق لجرائم الاستعمار الياباني المديد والظالم للبلاد والعباد ... مصر ابتليت بأنظمة ديكتاتورية، وكوريا الجنوبية، لم تخرج من ظلمات “العسكر” إلى أنوار “صناديق الاقتراع”، إلا في مرحلة متأخرة، في المنقلب الثاني من ثمانينيات القرن الفائت فقط.
فما هو سر المعجزة والحالة كهذه؟ .... البعض وجد السر  في “نظام التعليم”، هنا تنفق الدولة بسخاء على التعليم، وتقدمه على بقية أبواب الصرف ... المدارس والجامعات بيوتات لإنتاج أجيال متعاقبة من الشباب الملتحق بركب العصر واحتياجاته المهنية والعلمية والتكنولوجية ... ساعات دوام طويلة، تستهل جُل نهار الطالب، وأيام عطل لا تزيد عن ستين أو سبعين يوماً في السنة (تذكرت أننا في الأردن نغلق مدارسنا عدداً من الأيام يفوق تلك التي نفتحها بها) ... البعض ردّ المسألة إلى مقاربة لا ترحم مع الفساد والفاسدين والمفسدين في الأرض، حيث تحتل البلاد مكانة متقدمة للغاية على مقياس الشفافية الدولية... نفر آخر من محدثينا بحث عن أسباب المعجزة في خصائص “ثقافية” جعلت من سكان هذه البلاد وجوارها من بوذيين وكونفوشيين، شديدي التمثل لعبارة “العمل عبادة”، قلت ولكنها جزءٌ من إرثنا الديني والثقافي، فقيل لي أننا نكتفي بكتابتها وتعليقها على الجدران، بينما هي هنا، أصبحت قيمة ومعياراً أخلاقياً وثقافياً واجتماعياً، بل وشرط حياة.
كوريا الجنوبية، التي تعيش معجزتها الاقتصادية، لم تتطلع شمالاً إلى جارتها ذات “الحكم الشيوعي الوراثي”، الذي تحوّل إلى مادة دسمة، تنسج حولها الغرائب والأساطير، بل ولا تنظر إلى جارتها العملاقة: الصين، التي نجحت بدورها في إنجاز المعجزة الاقتصادية، من دون انفتاح سياسي أو دمقرطة حتى الآن ... كورياً الجنوبية، أتبعت معجزتها الاقتصادية بمعجزة سياسية، عندما تمكنت خلال عشريات ثلاث من السنين فقط (هي بالمناسبة عمر مسارنا الديمقراطي الحديث في الأردن)، إلى ديمقراطية ناجزة، مستوفية لكافة المعايير والمقاييس، وتضع نفسها من دون تردد، بل ويضعها الآخرون من دون “ولكن”، في عداد الديمقراطيات الراسخة.

arabstoday

GMT 06:52 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

ليس آيزنهاور

GMT 06:49 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

والآن الهزيمة!

GMT 06:47 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

مسؤولية تأخر قيام دولة فلسطينية

GMT 06:25 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

... عن «الممانعة» و«الممانعة المضادّة»!

GMT 06:21 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

الفكرة «الترمبية»

GMT 06:18 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

واشنطن... وأرخبيل ترمب القادم

GMT 06:15 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

فريق ترامب؟!

GMT 06:12 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

مفاجأة رائعة وسارة!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من شـرفة على نهر «الهان» من شـرفة على نهر «الهان»



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا
 العرب اليوم - تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا

GMT 07:25 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية
 العرب اليوم - وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية

GMT 21:12 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل
 العرب اليوم - بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات
 العرب اليوم - كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 02:40 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

القهوة والشاي الأسود تمنع امتصاص الحديد في الجسم

GMT 06:59 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فلسطين و«شبّيح السيما»

GMT 07:22 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:52 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

كفاءة الحكومة

GMT 06:45 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان يقترب من وقف النار

GMT 10:19 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جهود هوكستين: إنقاذ لبنان أم تعويم «حزب الله»؟

GMT 16:54 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

روسيا تتعاون مع الحوثيين لتجنيد يمنيين للقتال في أوكرانيا

GMT 02:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

11 شهيدًا في غارات للاحتلال الإسرائيلي على محافظة غزة

GMT 06:56 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فرصة إيرانية ــ عربية لنظام إقليمي جديد

GMT 19:23 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

ميادة الحناوي تحيي حفلتين في مملكة البحرين لأول مرة

GMT 03:09 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

عدوان جوي إسرائيلي يستهدف الحدود السورية اللبنانية

GMT 07:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

اندلاع حريق ضخم في موقع لتجارب إطلاق صواريخ فضائية في اليابان
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab