تسعى إسرائيل بكل قوتها إلى تسجيل أي انتصار جزئي في غزة، بعدما ثبت استحالة تحقيق الهدف النهائي من الشعارات التي رفعها نتنياهو، وهي: إنهاء حركة حماس حتى تصبح غزة خالية تماماً من نفوذها.
التفكير الأمني الأكثر اختصاراً للوقت والجهد والمال وأقلّ تعرضاً للرأي العام العالمي، هو تنفيذ عمليات اغتيال سياسي عبر «عمليات نوعية» من قوات خاصة أو مرتزقة بدعم استخباري دولي وخطط من قبل «قوات دلتا» الأمريكية، وهي قوات نخبة في القوات الخاصة الموجودة منذ 4 أسابيع في إسرائيل (نحو 2000 مقاتل وخبير).
وتنشط هذه الأيام أجهزة التنصّت السلكي واللاسلكي كافة، وأنشطة الأقمار الاصطناعية العسكرية الإسرائيلية بالتعاون مع أجهزة استخبارات حلف الأطلسي.
كل ذلك من أجل التعرّف عبر رسالة أو مكالمة أو تحرّك غير محسوب إلى قادة كتائب القسام فوق أو تحت الأرض.
وأهم رموز القسّام المطلوبين للتصفية عند استخبارات الجيش الإسرائيلي، هم: يحيى السنوار، ومحمد ضيف، ومروان عيسى.
وتعرف إسرائيل من تجربتها، خاصة في المواجهات الأخيرة في عملية تبادل الأسرى، أن تحرّكات واتصالات قيادات القسّام تتم بتغطية شبه حديدية، حتى أن يحيى السنوار قام بزيارة بعض الرهائن في الأنفاق قبل الإفراج عنهم، ولم تعرف أي من الأجهزة الإسرائيلية هذه المعلومة، إلا بعد الحصول على أقوال الرهائن الإسرائيليين للتعرف إلى ظروف معيشتهم، أو الاستدلال منهم على أي معلومة تشي بمكان اختطافهم.
إذن «هو الاغتيال والتصفية الجسدية».
وحتى لا يعتقد أحد أنني أظلم أو أدّعي على الأجهزة الإسرائيلية، فإن مبدأ التصفية هو أسلوب متبع وعقيدة أمنية أصيلة عند هذه الأجهزة.
تاريخ إسرائيل في الاغتيالات حاضر بقوة في العقود الأخيرة ضد القيادات الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية والأردن ولبنان وتونس وباريس.
تم اغتيال قادة المقاومة في بيروت، وأهمهم غسان كنفاني وأبو علي حسن سلامة، وفي تونس أبو جهاد وأبو إياد وأبو الهول، وأبو علي مصطفى (الجبهة الشعبية)، ومن حركة حماس تم اغتيال الشيخ أحمد ياسين وعبدالعزيز الرنتيسي، وصلاح شحادة وإبراهيم المقادمة، وتمّت تصفية ما لا يقل عن 15 عنصراً من القيادات العسكرية للقسّام في العمليات الأخيرة.
وأصل فكرة الاغتيال هو أسلوب منذ بدء التاريخ وتعريفه العلمي: هو وصف لعملية قتل منظمة ومتعمّدة تستهدف شخصية ذات تأثير سياسي أو ديني أو فكري لأسباب عقائدية أو سياسية انتقامية.
ويهدف القائمون بالاغتيال من هذه العملية، إلى وضع عوائق أو تعطيل مؤثر لأفكار وأنشطة من تم اغتيالهم.
إنه مبدأ يقوم على التصفية الجسدية بهدف تصفية أفكار أو نشاط أو دور ضحايا الاغتيال.
وأساس الفكرة أتت من جماعة الدعوة الجديدة الحشاشين (طائفة إسماعيلية نزارية عملت من القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر من معقلهم المعروف باسم ألموت (ALMUT) وهي قلعة على جبل شاهق تبعد قرابة 100 كم من طهران!
الاغتيال في أفضل حالاته كان معطلاً بهدف ما، أو نشاط ما، ولكن لم يلغِ أو ينهِ فكرة أو عقيدة.
اغتيل تروتسكي الروسي على يد عملاء سوفييت في سنة 1940 أثناء وجوده في مدينة مكسيكو، ولم تتوقف نظريته.
اغتيل مالكوم إكس (فبراير من سنة 1965) وظلت جماعة المسلمين السود وانتشرت.
اغتيل مارتن لوثر كينج في سنة 1968، واستمرت أفكار تحرير السود من التمييز العنصري حتى الآن.
اغتيل عبدالقادر ملولة الكاتب والمفكر المسرحي الجزائري على يد الجبهة الإسلامية في سنة 1994 واستمرت أفكاره التنويرية.
اغتيل جبران تويني على يد تنظيم أمني تابع لدمشق واستمرت أفكاره واستمرت صحيفته «النهار» تشرق كل صباح.
اغتيل رفيق الحريري واستمر تياره السياسي الذي لم يقتصر على سنّة لبنان وحدهم.
الاغتيال السياسي مجرد عملية إضعاف أو تعطيل، وإلا لما استمرت معاهدة السلام بعد وفاة السادات، ولما استمر جنون الحرس الثوري بعد قاسم سليماني، أو «داعش» عقب اغتيال أميرها أبو مصعب الزرقاوي، أو لما عاشت «القاعدة» عقب اغتيال ابن لادن.
الاغتيال هدف أمني، لكنه في النهاية يقتل الشخص وليس الفكرة.
آخر ما يؤكد أن الفكرة مطروحة بقوة على المستويين السياسي والأمني الإسرائيلي هو ما نشرته صحيفة «الجيروزاليم بوست» الإسرائيلية أول من أمس عن خبر يقول: «إن الأجهزة الأمنية في إسرائيل أعطت ضمانات لقطر التي تستضيف قادة حماس (هنية ومشعل وأبو مرزوق) في الدوحة، أنها لن تقوم بأي عمليات تصفية ضدّهم أثناء إقامتهم هناك»!