من يصدق أن ندوة ثقافية ذات مستوى رفيع من الجدل والنقاش تحظى بآلاف المتابعين الجادين من الشباب والشابات فى زمننا هذا؟
تابعت ذلك بنفسى، فى مسرح مفتوح كبير، مساء أمس الأول فى «الرياض»، ولا أقول الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية، ولكن أقول «الرياض» الجديدة عاصمة السعودية التى تشهد أسرع وتيرة من التحديث والإصلاح والتطور فى عصرها منذ الأسرة السعودية الأولى، أى منذ أكثر من 300 عام.
لم أكن أتابع ما يحدث على شاشات المسرح، بقدر ما كنت أتأمل وأتفحّص جيداً نوعية الحاضرين والحاضرات للندوة، وردود فعلهم تجاه ما يحدث على المسرح، إنه جيل متفتح عصرى خالٍ من عُقد الشرق العربى، أقرب إلى الحداثة والتمدن الرفيع.
كانت الندوة محاولة لإعطاء لمحات ملهمة لتجارب عالمية ناجحة يمكن أن تساعد الشباب السعودى على معرفة سر النجاح وطريق الإبداع وأسباب التميز والتفوق.
7 متحدثين، منهم «تيرى هنرى»، لاعب الكرة الفرنسى العالمى ومدرب الكرة الآن فى كندا، ومنهم صاحب ابتكار تطوير نظام «أنتل» العالمى، ومنهم صاحب كتاب «السعى للنجاح» الذى تحول لفيلم شهير بطولة «ويل سميث».
وجاء مسك الختام من خلال حوار عميق مع الأمير الشاعر عبدالرحمن بن مساعد للتعرف على ثلاثية نجاحه فى الشعر، والرياضة، وقيادة الرأى العام فى «تويتر».
مثلث يندر أن يجتمع فى مشوار رجل واحد، فيه الإبداع، والإدارة، والعمق السياسى.
المشترك الأساسى الذى اتفق فيه المتحدثون السبعة، وآخرهم الأمير عبدالرحمن، هو أن «التميز والنجاح والتفوق» يتم من خلال الإيمان الكامل، الذى يصل إلى حد الإصرار المطلق، بضرورة النجاح.
من هنا لا مجال لاحتساب احتمال الفشل، فأنت إما أن تنجح أو أن تنجح.
وتوقفت طويلاً أمام ما قاله الأمير عبدالرحمن عن «تعلم الإنسان الدروس من إخفاقاته ونتائج تراكم أخطائه».
الندوة من تنظيم جمعية «مسك» التى يرعاها ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان، والتى تسعى إلى رفع مستوى جودة الحياة من خلال رفع الوعى الثقافى وتعظيم المهارات والقدرة على الإبداع.
والندوة أقيمت فى مسرح داخل أكبر قطعة فضاء عند أطراف الرياض، تضم مسارح ودور عرض، وحلبات مصارعة حرة وملاكمة، ومطاعم عالمية وقاعات حوار وفن تشكيلى ومحلات منتجات محلية من ملابس وعطور ومشغولات.
من يصدق أن هذا يحدث فى الرياض؟
أذكر أننى حينما زرت الرياض للمرة الأولى فى ربيع 1977، وقابلت أميرها وراعى نهضتها -حينئذ- الأمير سلمان بن عبدالعزيز الذى تولى تشييدها من الألف إلى الياء منذ العام 1954 قال لى: «إننا نعد لعاصمة تليق بهذا البلد، وهذا مشروع إصلاحى لن يتوقف أبداً، ولكن سنشعر بآثاره الإيجابية على مدار كل عقد من الزمن».
وأشهد أننى كلما زرت الرياض، منذ ذلك التاريخ، أرى فيها تطوراً مذهلاً فى البناء والعمارة، وتأكد لى كلام الرجل.
الجديد فى الرياض الجديدة أنها لا تتطور فى «عمارة الحجر» فقط، ولكن فى تطوير وتحديث البشر.
انظر، ها هى المرأة تقود سيارتها فى أمان فى السعودية.
انظر، ها هو الفن الراقى فى كافة مدن السعودية، بعدما كان يُعتبر رجساً من عمل الشيطان.
ها هى منطقة عظمى للترفيه تقام على مساحة 14 مليون متر، فيها 12 موقعاً، وزارها حتى الآن أكثر من 8 ملايين زائر!
انظر، ها هو الترفيه العائلى على أرفع مستوى، بعدما كانت العائلات تسافر له كى تستمتع به فى دبى وبيروت ولندن ولوس أنجلوس.
انظر، ها هى أضخم مطاعم العالم مثل «شبيريا تى» و«لو بيتى ميزون»، و«سكالينى» إلى أهم مطاعم السوشى اليابانية، إلى ألطف المقاهى اللبنانية «بيتى كافيه»، و«الفلمنكى» وقهوة عزمى، إلى الطعام المصرى الشعبى مثل «قصر النيل» و«كشرى جحا» وكبدة وطواجن البرنس، إنه مشروع عملاق قام على تنفيذه أكثر من 280 شركة سعودية.
جودة الحياة فى الرياض وكافة المدن السعودية، من القصيم إلى أبها، ومن عسير إلى جدة، ومن الدمام إلى العلى.
ها هى السعودية ترى يحيى الفخرانى فى «الملك لير»، وعمر خيرت فى معزوفاته، وعمرو دياب (الهضبة) فى حفل أسطورى، وأشرف عبدالباقى فى مسرحية لطيفة، ومحمد رمضان فى حفل شبابى.
حدث ذلك الزلزال دون انقلاب، أو هزة اجتماعية، أو غضب شعبى، أو شعور برد فعل اجتماعى، بعدما كان الجميع يحذرون صانع القرار دوماً منه!
جاءت «جودة الحياة» كى تعبّر عن احتياج متراكم لدى الناس منذ عقود، وتعبير عن التركيبة السكانية لمجتمع شاب انفتح على ثورة الاتصالات، وتلقى تعليمه بلغات أجنبية، ويُعد من كبار مستخدمى وسائل الاتصال فى العالم الرقمى، ولديه أكثر من 350 ألف مبتعث للتعليم فى الخارج خلال العقد الماضى.
إذا كان المواطن السعودى ينفق مليارات كل عام بحثاً عن جودة الحياة فى الخارج، فلماذا لا يتم توفيرها له داخل وطنه، ويبقى العائد والإنفاق داخل الوطن؟
«جودة الحياة» ليست صدفة، أو مجرد رغبة شخصية للقيادة السعودية، لكنها «التزام وتعهد وتعاقد بين الدولة والمواطن»، كما جاء فى برنامج رؤية 2030 الذى قسم الرؤية لقسمين:
أولاً: تطوير القطاع المالى.
ثانياً: تطوير جودة الحياة.
وكأنه ترجمة لفكرة إعمار البشر بالتوازى مع إعمار الحجر، أى إنك لا تستطيع أن تنهض بالاقتصاد والأسواق وتطوير الخدمات دون أن يتوازى ذلك مع «نوعية وجودة» الإنسان الذى تتوجه له بكل هذه الإصلاحات. من هنا تصبح مسألة تطوير جودة الحياة هى عمل سياسى بامتياز.
تلك كانت ملاحظة كل شركات البحوث والدراسات التى قامت بتشخيص حال البلاد والعباد داخل السعودية فى العقود الأخيرة، بل إن بعضهم كتب صراحة فى تقرير رسمى فى دراسة طلبتها إحدى الوزارات فى عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- «لا يمكن أن تتسوق المملكة أحدث المنتجات الاستهلاكية فى العالم وتتعامل معها بقيم القرن الماضى».
هنا لا بد من معرفة الإجابة عن السؤال الجوهرى والأساسى لفهم حركة التحديث التى تعيشها المملكة بشكل متسارع منذ 23 يناير 2015، أى منذ تاريخ حكم الملك سلمان بن عبدالعزيز للبلاد، وهو: لماذا أقدم الملك سلمان على هذا الاختيار؟ ولماذا اختار الأمير محمد بن سلمان من بين أكثر من 6 آلاف أمير لولاية العهد؟!
الإجابة غداً بإذن الله.