بقلم - مصطفي الفقي
عندما صدر قرار جمهورى عام 1966 للتعيين بالسلك الدبلوماسى المصرى، ذهبت أنا وبعض زملائى إلى مبنى وزارة الخارجية على ضفاف نيل الجيزة وقتها، قاصدين إدارة التفتيش أو السلكين الدبلوماسى والقنصلى، وهى الإدارة المعنية بإجراءات تسلّم العمل فى تلك الوزارة ذات الخصوصية والأهمية فى وقت واحد، وكان قد تخرج معظمنا فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بتقديرات مرتفعة، ويومها استقبلنا دبلوماسى شاب فى تلك الإدارة كان بدرجة سكرتير ثانٍ على ما أتذكر وهو الدبلوماسى عبدالسميع زين الدين نموذجًا لأناقة الوظيفة، حيث يلبس (ببيون) بديلًا لرباط العنق، إمعانًا فى الأناقة وتأكيدًا للخصوصية، وأتذكر أنه سألنا يومها عن نتيجة الكشف الطبى وقلنا له: إنهم أخبرونا هناك بضرورة إيفاد مندوب من وزارة الخارجية لاستلام أوراق النتيجة، لأنها لا تسلم لأصحابها باليد، وأتذكر أننى تجاوزت حدودى وقلت له: إنهم لا يطلبون مسؤولًا كبيرًا للقيام بهذه المهمة ولكن يكفى أن توفد الإدارة أحد ملحقيها الدبلوماسيين لاستحضار أوراق نتيجة الكشف الطبى، ويومها أبدى الدبلوماسى اللامع انتقاده لما قلت وقال لى: هل تتوقع أننا نوفد الدبلوماسيين لإحضار بعض الأوراق، وأضاف: إن الملحق الدبلوماسى وظيفة رفيعة الشأن!
وتم استقبال الأوراق بعدها بأيام قليلة، وظللت أتابع عبدالسميع زين الدين باعتباره ذلك الدبلوماسى المثالى الذى تعلمت منه مكانة الوظيفة وأهمية شاغليها، إلى أن فاجأنى ابنه السفير الشاب أيمن عبدالسميع زين الدين، وهو دبلوماسى متميز بين زملائه كان سفيرًا لمصر فى إسبانيا، لتسليم ديوان شعر ضخم لوالده أرسله معه ليعطينى إياه، خصوصًا أن علاقتى بالسفير الكبير عبدالسميع زين الدين وبابنه الدبلوماسى النابه أيمن زين الدين أيضًا قد توثقت عبر السنين، وبدأت أتصفح الديوان لأكتشف وجهًا آخر لشاعر دبلوماسى رقيق اقتحم ميادين الشعر المختلفة وعبّر عن إنسان العصر أفضل تعبير، وتأكدت أن الأناقة التى كان عبدالسميع زين الدين معروفًا بها كانت تخفى وراءها شاعرية متقدة وروحًا نبيلة ونفسية شفافة؛ فالذى يقرأ الديوان الكبير الصادر عن دار العين للنشر لا يتوقف عن التهام صفحاته حتى ينتهى منها، وقد عادت ذاكرتى بسبب ديوان السفير زين الدين إلى أولئك الشعراء الذين كانوا سفراء أيضًا، لقد تذكرت عمر أبوريشة الذى كان سفيرًا للجمهورية العربية المتحدة فى الهند، وهو شاعر سورى مرموق ارتبط بمصاهرة مع واحد من ألمع أبناء الدبلوماسية المصرية وهو من هو كاتبًا سياسيًا ومثقفًا رفيعًا وأعنى به الأستاذ جميل مطر، الذى تزوج بابنة الشاعر الكبير والتى رحلت عن عالمنا منذ سنوات قليلة، وكان عمر أبوريشة قوميًا وحدويًا مثل معظم أبناء جيله فى العالم العربى، إلى أن حدث الانفصال، ووجه عمر أبوريشة ملاحظات قاسية للرئيس الراحل عبدالناصر، وأتذكر أنه انتقد الزعيم القومى العروبى لأنه وضع التمثال الأكبر فى قلب عاصمة بلاده للملك رمسيس الفرعونى تكريسًا للشعوبية وخروجًا عن السياق القومى العربى السائد الذى كان يجسده عبدالناصر روحًا وفكرًا وسياسة، فإذا كان انفصال 1961 انتكاسة قومية، فإن هزيمة 1967 كانت انتكاسة كبرى للمشروع القومى للزعيم الراحل جمال عبدالناصر، وتذكرت من ديوان السفير زين الدين اسم الشاعر الدبلوماسى الفحل نزار قبانى، الذى أدخل فى لغة الشعر العربى مفردات لم تكن معروفة من قبل، فهو الذى قال (وفساتينى التى أهملتها) التى تغنت بها المطربة المصرية الشهيرة نجاة الصغيرة، وهو الشاعر الذى ابتكر فى أبيات شعره كلمات جديدة وصك عبارات موحية بما لم يجرؤ عليه شاعر فى العقود الأخيرة، فالشعر فى ظنى هو لغة الروح وخطاب الوجدان؛ فعندما أقرأ قصيدة كامل الشناوى (على باب مصر) أو إحدى قصائد صديقى العزيز الشاعر والكاتب والأديب فاروق جويدة، فإننى أتلمس الخطى الواسعة نحو سبر أغوار النفس البشرية المعقدة والمركبة والتى لا يفهمها إلا شاعر رقيق ذو حكمة.. تحية لشعرائنا دبلوماسيين وغير دبلوماسيين، وتحية للشاعر السفير عبدالسميع زين الدين الذى يترك للأجيال القادمة إرثًا لا ينتهى ومعينًا لا ينضب.