بقلم - مصطفى الفقي
إن أرض مصر تحتوى كنوزًا لا نظير لها فى أى دولة عرفها التاريخ، فهى كما يقول الأثريون تملك تحت كل حجر أثرًا، وإذا حفرت قليلًا فى بعض الدول خرج الماء أو تدفق البترول، أما مصر فإن الحفريات تقذفنا برموز الحضارة وبمزيد من التراث الذى لا ينضب، ولذلك فإننى أقول لبلاد النفط ووفرة المياه إن مصر تندفع منها فوهات الحضارة وبراكين المعرفة، وبرغم عمليات السطو المنتظم على آثارنا عبر القرون وحصول الأجانب أحيانًا على نصيب الأسد من اكتشافاتهم إلا أننا نقول مع الأثريين إن أرض مصر الطيبة لم تبح بكل أسرارها ولم تكشف كل ما لديها لأنها تغطى رقائق من حضارات مختلفة بدءًا من الحضارة الأم الفرعونية الملهمة التى شيدها المصرى القديم، مرورًا بالحضارتين الإغريقية والرومانية.
ثم التراث القبطى وصولًا إلى الكيان الحضارى الباقى والقائم على أعمدة الحكمة التى صنعتها عظمة التاريخ بالتقائها بعبقرية الجغرافيا وأعنى بذلك الحضارة العربية الإسلامية التى احتوت المنطقة بأسرها بغض النظر عن الانتماءات الدينية أو العقائد الروحية، ولقد علمت أنهم عندما بدأوا عمليات الحفر لبناء مكتبة الإسكندرية فى تسعينيات القرن الماضى فوق نفس البقعة التى كانت عليها مكتبة الإسكندرية القديمة منذ ألفى عام فوجئ الحفارون بقطع نادرة من آثار تلك الحقبة الإغريقية ثم الرومانية، بل إن شارع فؤاد فى الإسكندرية هو واحد من أقدم الشوارع المستمرة دون انقطاع فى العالم كله والذى كان اسمه الأصلى (شارع كانوب)، ولذلك فإن اعتزازنا بآثارنا المصرية الرائعة وتراثنا الحضارى العريق يجب أن يدفعنا إلى مزيد من الحرص والاهتمام بالآثار المصرية العظيمة، وهو ما أظن أن القائمين على أمورها أشد حرصًا عليها منا جميعًا وأكثر وعيًا بقيمتها التى لا تقدر بثمن.. إنها مصر الأهرامات، والمعابد، والبرديات التى سجلت تاريخ البشرية وقدمت تفسيرًا لكثير من الألغاز خصوصًا بعد اكتشاف حجر رشيد، ولحسن الحظ فإن هذه السطور التى أكتبها الآن تمهد لمناسبة كبرى تتعلق بآثارنا الخالدة وأعنى بها ما سوف تحتفل به مصر العام القادم بعد مرور مائة سنة على اكتشاف كنوز الملك الذهبى توت عنخ آمون والتى اكتشفها هوارد كارتر وأتوجس أنه قد حفظ جزءًا منها لشخصه أو لدولته قبل أن يعلن عن محتوياتها.
وعندما طاف الملك الذهبى ببعض عواصم العالم بهر الدنيا وأذهل البشر، ولقد كانت هناك نظريتان فى مسألة سفر الآثار إلى الخارج الأولى ترى أن ذلك يمثل ضررًا عليها وانتقاصًا من قيمتها، بينما يرى الفريق الآخر أن سفرها كان أكبر دعاية سياحية لمصر وهو الذى دفع ملايين السائحين من مختلف الجنسيات ليزوروا مهد تلك الحضارة ويروها على أرض الواقع بعد أن عشقوا تاريخ مصر القديم وأدركوا عظمة الفراعين الذين بنوا وشيدوا، وحاربوا وانتصروا، وسجلوا على جدران المعابد جزءًا من سر الحياة والرغبة فى الخلود والإيمان بالعالم الآخر بعد الموت فكانت المقابر هى رمز تلك الحضارة الكبيرة كما أضحت الأساطير التى تدور حول العلاقة بين الحياة والموت هى الشغل الشاغل للمصرى القديم الباحث فى لغز الوجود، ولقد لاحظت أن نهضة واضحة قد طرأت على رواد علم الآثار فى بلادنا خلال العقدين الأخيرين وظهرت أسماء لامعة دوليًا ومحليًا مثل الأثرى العالمى صديقى د. زاهى حواس، وغيره من الكوكبة المتألقة التى أعرف منها الوزير الحالى د. خالد عنانى وأمين عام المجلس د. مصطفى وزيرى، ولقد أتاحت لى الظروف فى الأسابيع الأخيرة أن أشهد عمليات الحفر التى يقوم بها فريق الدكتور حواس بمكتبة الإسكندرية التى تحتضن مركزًا بحثيًا كبيرًا باسم ذلك الأثرى المرموق ورأيت صعوبة الحفر ومعاناة الاكتشاف وشهدت الأرض وهى تبوح بأسرارها للمصريين وكأنما تحدثهم عن خفايا الحياة وخبايا الوجود.
وإننى على يقين من أن مصر تولى آثارها الرائعة اهتمامها الأول، ويكفى أن رئيس الدولة سوف يفتتح بإذن الله أكبر متحف فى العالم وهو المتحف المصرى الجديد خلال هذا العام وكأنما تعانقت مناسبة افتتاحه مع مئوية كشف كنوز الملك الذهبى توت عنخ آمون.. هل هى مصادفة أم هو واحد من أسرار التاريخ الفرعونى الحافل بالأفكار والأسرار والأساطير؟!