بقلم - مصطفى الفقي
عرفته منذ أكثر من أربعين عامًا عندما بدأت الكتابة بشكل منتظم فى جريدة «الأهرام» وكان هو المشرف على صفحة الرأى، وذكر مرات كثيرة فى عموده الصحفى أنه يعتز بأنه أول من استكتبنى فى تلك الصحيفة العريقة بانتظام حتى الآن، وصلاح منتصر ظاهرة إنسانية قبل أن يكون علامة صحفية، فهو رجل مستقيم الخلق حسن المعشر وفيٌ لأهله وأصدقائه، وأتذكر معاناته مع مرض زوجته ــ رحمها الله ــ قبل أن يعوضه الله بزوجة أخرى صالحة من بيت عريق، ولقد كان صلاح منتصر إنسانًا بشوشًا ضاحكًا يحمل فى أعماقه مخزونًا كبيرًا من السخرية الذكية والتعبيرات اللاذعة مع عدد من النوادر التى تصل إلى حد النكات المهذبة، وقد جاء بعد أنيس منصور رئيسًا لتحرير مجلة أكتوبر وكانت خلافة أنيس منصور دائمًا مسألة صعبة فقد كان أستاذًا للفلسفة ويضع قدمًا فى الأدب والأخرى فى الفن، ولكن صلاح منتصر استطاع ترويض العلاقة به بل وتكريمه، حتى وضع صورة أنيس منصور على غلاف أول عددٍ صدر من مجلة أكتوبر بعد تعيين منتصر رئيسًا لتحريرها وكان ذلك ذكاء منه وفطنة، فالعاقل هو من يعرف كيف يودع مثلما يعرف كيف يستقبل ويعطى لكل ذى حق حقه ولا يبخس الناس أشياءهم، هكذا كان صلاح منتصر الذى عرفته عبر السنين فى السراء والضراء، وكان من أسباب توثق صلتى به صديقنا المشترك رجل الأعمال صلاح دياب إذ أن زوجتيهما شقيقتان، ولقد استأنس صلاح دياب كثيرًا بصلاح منتصر وخبرته وحكمته فشكلا ثنائيًا لطيفًا لاثنين يحملان نفس الاسم ولا يفترقان إلا إذا كان أحدهما على سفر، وقد كان صلاح منتصر شديد الحرص على علاقاته بالآخرين خصوصًا من أبناء مهنته فكان صديقًا لإبراهيم نافع ومكرم محمد أحمد وغيرهما ممن سبقوه فى المواقع القيادية بـ«الأهرام» وغيرها من الصحف، ولكن العلاقة المعقدة كانت هى بحق تلك التى تربطه بالأستاذ هيكل، فقد كان صلاح منتصر شديد الاعتزاز بذلك الصحفى الكبير والكاتب اللامع وتعلم منه الكثير وكان وفيًا لاسمه محترمًا لقامته، ورغم أن صلاح منتصر لم يكن على وفاق مع الفكر الناصرى بعد رحيل عبد الناصر، وكان يدرك أن هيكل جزء لا يتجزأ من الصياغة الفكرية للعصر الناصرى، إلا أنه استطاع التفرقة ببراعة بين تلك الحقيقة وحقيقة أخرى وهى أنه ينبغى أن يحافظ على علاقة متميزة بالأستاذ هيكل، وقد كان الأخير يشعر بذلك ويتحدث عن خلافات بينهما لا تفسد للود قضية ويعبر الاثنان عن مودة صادقة من كل منهما تجاه الآخر، وصلاح منتصر ابن محافظة دمياط يحمل كل صفات أبنائها من الذكاء والفطنة والتجويد فى العمل وكان ينتسب بالقربى إلى الإمام حسن المأمون أحد شيوخ الأزهر الكبار، كما كان أحد أخواله الأستاذ الغزاوى رئيس البعثة التعليمية المصرية فى البحرين لسنوات طويلة، وقد تلازم فى الدراسة مع الدبلوماسى الرائع عبد الرؤوف الريدى ــ أطال الله فى عمره ــ كما اقترب أيضًا فى سن مبكرة من السفير أسامة الباز أحد أساطين العملين الدبلوماسى والسياسى والقريب من صانع القرار فى العقود الأخيرة، وكان صلاح منتصر يعتز بهاتين العلاقتين أيما اعتزاز، ويتحدث معى عن ذكريات له سواء فى دراسته بكلية الحقوق أو عمله الصحفى وتنقلاته بين دور النشر والصحافة مع إيمان عميق بالمهنة واحترام لقواعدها، وقد ظل يحمل صفة المخبر الصحفى طوال حياته ،حيث كان يضع فى جيبه نوتة صغيرة يسجل فيها خواطره أو ملاحظاته أو معلومات جديدة لم يكن يعرفها من قبل، حتى لو كان اللقاء لقاء سمر وثرثرة وليس حديثًا رسميًا يتعين عليه رصده، فقد غلبت عليه دائمًا حاسة الصحفى الباحث عن المعلومة المتعقب للخبر والذى لايضيع فرصة يرضى فيها فضول الكاتب وحاسة الأديب، خصوصًا وأنه كان يتمتع بأسلوب صحفى يقترب كثيرًا من مدرسة الأستاذ أحمد بهاء الدين فى كتاباته السلسة التى نطلق عليها أسلوب السهل الممتنع.
إن رحيل صلاح منتصر قد فتح أمامى صندوق الذكريات وأثار لدى كثيرًا من مشاعر الأسى، لأن الرجل عانى فى سنواته الأخيرة خصوصًا فى الشهور التى سبقت وفاته وقد ظلت زوجته الصامدة تقف إلى جانبه فى شجاعة وحرص وحنو واهتمام حتى لبى نداء ربه وانتقل من دار الفناء إلى دار البقاء، ويعتبر صلاح منتصر أحد أفضل كتاب الأعمدة فى الصحافة العربية فهو يذكرنى دومًا بالكاتبين اللبنانيين جهاد الخازن وسمير عطا الله والكتاب المصريين الكبار من نماذج أنيس منصور ومكرم محمد أحمد وغيرهما من أبناء ذلك الجيل الذهبى فى الصحافة المصرية، وأنا على يقين أن مصر التى أنجبت مثل هؤلاء الكتاب الكبار هى قادرة على أن تأتى بمثلهم فى كل العصور، ولقد تشرفت بأن تبوأت موقع رئيس مجلس إدارة مركز الإعلام العربى ــ وهو مؤسسة ثقافية إعلامية أهلية ــ بترشيح من مؤسسيها الأستاذ الكاتب الصحفى الكبير صبرى غنيم والكاتبة الصحفية القديرة وفاء الغزالى وذلك منذ عام 2012 وحتى الآن وهو مركز إعلامى صاحب فكرته فارس الصحافة المصرية الكاتب الراحل الأستاذ سعيد سنبل، وأكمل الطريق بعده صلاح منتصر إلى أن آلت المسئولية إلى شخصى الضعيف فاعتبرت ذلك وسامًا أعتز به وأذكر بالفضل كل من سعوا به نحوى!