بقلم : مصطفى الفقي
عندما التحقت بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية قادمًا من مدينة دمنهور فى خريف ١٩٦٢ وقد كنت رئيسًا لاتحاد طلاب مدارسها الثانوية، إذا بالعمل العام يلوح أمامى جذابًا من جديد خصوصًا أن تلك الفترة كانت حافلة بالمناسبات الوطنية والأحداث القومية، لذلك بدأت أظهر فى المناسبات المختلفة وفقًا لمقتضيات الحال ولظروف كل منها، ولم يطل بى المقام طويلًا فحدثت ثورة كبرى فى العراق عام ١٩٦٣ وخرجت جامعة القاهرة تحتفل بتلك المناسبة التى كانت تبدو انتصارًا للحكم الناصرى وشعاراته القومية العالية، وانتظم فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ذلك اليوم عدد ضخم وحشد كبير من الطلاب والأساتذة وطلب الأستاذ المحاضر وقتها الدكتور ثروت بدوى أستاذ القانون الدستورى من يجد فى نفسه القدرة والرغبة للتحدث باسم طلاب الكلية فى تلك المناسبة الهامة، ورفعت يدى مترددًا فأشار لى دون معرفة سابقة وقال رفعت يدك أولًا فتفضل إلى المنصة وقل كلمتك، وقد فعلت يومها وقوبلت الكلمة بانفعال شديد وحماس زائد من الطلبة وتصفيق حاد متواصل، وكانت هى بداية تعرف زملائى علىّ فى مرحلة دراستى الجامعية قادمًا من الريف إلى الحضر، من المدينة الصغيرة إلى العاصمة الكبيرة، وقد فتحت لى تلك الكلمة أبوابًا لم تغلق فأصبحت معروفًا لدى زملائى ومحبوبًا لدى أساتذتى، فلما جاءت انتخابات اتحاد الطلاب ترشحت فى إحدى اللجان فحققت نجاحًا كبيرًا أدى إلى وصولى لموقع رئيس اتحاد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وهو موقع شغلته حتى تخرجى من الكلية عام ١٩٦٦
وهكذا تسوق الظروف الإنسان أحيانًا إلى ولوج أماكن لم يكن يتحسب لها ثم يحظى بشهرة لم يكن قد سعى إليها ولقد دعمنى فى ذلك وجود نسبة كبيرة من الطلبة والطالبات فى كلية الاقتصاد من أبناء الدول العربية والإفريقية المتحمسين بالطبيعة للقضايا القومية والوطنية، كما أن وجود ابنة الرئيس عبد الناصر الأستاذة الدكتورة الفاضلة هدى كان له أثره فى التعامل الخاص مع الكلية من بين الكلبات الأخرى وفى مقدمتها كلية الحقوق بجامعة القاهرة والتى كانت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ضيفة على ملحقها عند مدخل الجامعة، كما كان الأساتذة نخبة من السياسيين أصحاب الطموحات من أمثال لبيب شقير ورفعت المحجوب ومعهما من كلية الحقوق طعيمة الجرف وأسماء أخرى لمعت فى سماء الوطن فى العصر الناصرى وبعد انتهائه، إننى أقول هذا الآن وأنا أدرك جيدًا أن المصادفات تصنع أحيانًا ما لا يتوقعه أحد وتغير مسار الإنسان وقد تعطيه أو تأخذ منه ما لم يتوقعه، ولا زلت فى أعماقى مدينًا لأستاذى ثروت بدوى بنتائج تلك المصادفة غير المرتبة والتى دفعت بى خطواتٍ إلى الأمام فى السنوات الأولى من حياتى الجامعية لذلك ظللت على صلة طيبة بذلك الأستاذ الأنيق شكلًا وموضوعًا واستمر التواصل بيننا حتى رحيله عن عالمنا رحمه الله. وهو شقيق الفيلسوف المصرى الكبير عبد الرحمن بدوى كما كان صديقًا مقربًا من أستاذ آخر كنت أعتبره قدوة فى العلم ونموذجًا فى الحفاظ على الكرامة وأعنى به الدكتور رفعت المحجوب رحم الله الجميع.