بقلم : مصطفى الفقي
عندما كنا طلابًا فى الجامعة فى عصر الرئيس عبدالناصر صدر قرار بتدريس مادة إضافية تتناول الوضع القومى والقضايا الوطنية، فى محاولة لتوعية الشباب فى ذلك العصر بشؤون الوطن المصرى والأمة العربية، وجاء دورنا طلاب السنة الثالثة بالكلية مع مقرر باسم «الاشتراكية العربية» يقوم بتدريسه أستاذ الاقتصاد المفضل عندى الدكتور رفعت المحجوب، والذى كنت أهوى محاضراته؛ لأنها كانت أقرب إلى فلسفة علم الاقتصاد منها إلى تقنيات العلم ذاته.
وكنت رئيس اتحاد طلاب الكلية فى ذلك الوقت وعضوًا بارزًا فى جمعية الفكر الاشتراكى التى كان عمودها الفقرى فى ذلك الوقت الدكتور على الدين هلال المعيد اللامع بالكلية، وفى امتحان تلك المادة جاءنا سؤال عن الفارق بين الاشتراكية بمفهومها العلمى الواسع والاشتراكية العربية بمضمونها القومى فى العصر الناصرى، وقدحت ذهنى يومها وكتبت عدة صفحات أقرب إلى البحث النظرى منها إلى المضمون الضيق، فالاشتراكية العربية التى كان يرى البعض وقتها – بحماس الشباب- أنها تقف فى منتصف الطريق وأنه إما أن تكون هناك اشتراكية بمعناها الكامل وإلا فإن نصفها لن يستجيب لطموحات دول العالم الثالث.
وتلك كانت رؤية قطاع كبير من الشباب الناصرى المتحمس الذى يريد أن يختصر الزمان وأن يقف فى مواجهة حادة أمام القوى الإمبريالية ومظاهر الاستعمار الجديد، وهى رؤية خاصة بذلك الوقت المبكر، وفى ظل خبرة محدودة بإطار العصر الذى نعيش فيه، وخرجت يومها من الامتحان وفى ظنى أن نتيجة مقرر الاشتراكية العربية سوف تكون دعمًا لنتيجتى الإجمالية فى تلك السنة فإذا المفاجأة المذهلة هى نجاحى فى كل المواد وحصولى على درجة «ضعيف جدًا» فى مقرر الاشتراكية! وأصابتنى دهشة بالغة حتى اجتزت امتحان تلك المادة إضافية فى العام التالى.
وقد علمت أن زميل دراستى وصديقى العزيز الوزير الأسبق منير فخرى عبدالنور قد حصل على تقدير مقبول فقط فى تلك المادة مع أنه كان طالبًا متفوقًا، وكنت فى حيرة من أمرى لهذه النتائج التى لا تعكس الواقع بل توحى أن خطأ ما قد جرى أدى إلى اختلاط الأوراق، ثم نسيت الأمر لسنوات ولم أتحدث فيه حتى توثقت صلتى بالدكتور رفعت المحجوب أستاذ تلك المادة؛ حيث كان هو رئيس مجلس الشعب حينما كنت أعمل سكرتيرًا لرئيس الجمهورية للمعلومات والمتابعة، وكان بيننا تواصل شبه يومى بحكم الاختصاص.
وفى لحظة صفاء حكيت للدكتور رفعت قصتى مع مقرر الاشتراكية وكان شخصية راقية للغاية فابتسم فى كبرياء قائلًا أنت منهم إذًا، قلت ماذا تقصد سيادتك؟ قال الذين زايدوا على الحل الاشتراكى المصرى وعبروا الحدود وتطلعوا إلى اشتراكية كاملة لا تتسق مع الهوية العربية أو التراث الدينى، وأضاف لقد تصورت أنها أوراق مدسوسة من جهة أمنية لاختبار ولاء الأستاذ وليس معلومات الطالب! وظللت أذكره بتلك الواقعة فى مناسبات تالية وكان يقول لى عليك أن تنسى هذا، فالفلسفة الزائدة فى أمر معين تؤدى إلى نفس نتيجة النقص أو الفهم الجزئى لها.
والآن أتساءل هل كان المناضل الراحل جمال عبدالناصر يقصد الوقوف فى منتصف الطريق حرصًا على وطنه أم أنه أراد أن يترك الباب مفتوحًا أمام التطورات التالية للرؤية الوطنية فى إطار الاشتراكية العالمية؟! لقد كانت أيامًا زاخرة بالفكر المتجدد والحوار الدائم، كانت سنوات الحلم القومى والأمل العربى، وعندما نتأمل تلك الأيام الخوالى بما لها وما عليها ندرك أن محاولات مصر نحو الانطلاق للتحليق فى سماء النهضة والتحديث كانت تجد طوال الوقت من يضع فى طريقها العقبات ويصنع الشكوك والأزمات ومن يحاول إجهاض تجاربها النهضوية وحركاتها الإصلاحية وينشر ضبابًا حول رؤيتها من صحوتها.