بقلم : مصطفي الفقي
أثار رحيل الأنبا باخوميوس مطران البحيرة ومطروح والمدن الخمس الغربية فى الكنيسة الأرثوذكسية المصرية تساؤلاً كبيرًا حول المهمة الثقيلة الملقاة على عاتق من يعبرون بمؤسسة دينية كبرى أو حتى دولة كاملة قفزًا إلى الأمام نحو مرحلة جديدة، وكأنها سياحة فى المستقبل وارتياد لغدٍ مجهول، وألح عليَّ وأنا أقلب فى هذا الأمر الدور التاريخى للقاضى الفاضل المستشار عدلى منصور الذى كان رئيسًا للجمهورية انتقاليًا بعد سقوط نظام الإخوان وتطلع المصريين نحو رئاسة الرئيس المشير عبدالفتاح السيسى، لذلك اكتشفت أن المهمة التى شهدناها فى السنوات الأخيرة على مستوى الدولة ومستوى الكنيسة القبطية هى أمر يستحق التأمل، وبقدر ما كانت إشادتنا بالدور المتوازن والحكيم للرئيس عدلى منصور - أطال الله فى عمره - وفترة القائم مقام البطريرك الأنبا باخوميوس الذى حملته الكنيسة المصرية مسئولية الانتقال إلى عهدٍ جديد بعد ما يقرب من أربعين عامًا كان على قمتها راهب قوى الشكيمة واسع الثقافة هو البابا شنودة الثالث، وجاء الرجلان الأنبا باخوميوس على مستوى الكنيسة وعدلى منصور رئيس المحكمة الدستورية العليا على مستوى الدولة، وشهد المصريون بحكمة الرجلين وحصافة كل منهما رغم الفارق الكبير بين طبيعة المهمتين الدينية فى الانتقال من البابا شنودة الثالث إلى البابا تواضروس الثانى، وبين المهمة السياسية الكبرى التى أداها بحرفية كاملة ومهنية مستقلة الرئيس عدلى منصور للانتقال من حكم جماعة الإخوان إلى الحكم الذى طالب به المصريون بعدهم ووصول المشير عبدالفتاح السيسى إلى سدة الحكم بشعبية كاسحة جعلت إجرءات الانتقال ظاهرة تاريخية شهدناها جميعًا، ورغم اللقاءات القليلة التى جمعتنى برئيس الجمهورية الانتقالى السابق عدلى منصور والتى اختتمها بدعوة كريمة لزيارته فى آخر يوم له بالمحكمة الدستورية العليا بعد أن أدى مهمته التاريخية لخدمة وطنه، حين شرفنى بإصرار على ضرورة لقائه فى مكتبه وهو يختتم رحلة عمر شامخة فى القضاء والسياسة معًا، وتذكرت أيضًا علاقتى الوثيقة بالأنبا باخوميوس بدءًا من تعاملى مع نيافته فى أثناء عضويتى للبرلمان المصرى نائبًا عن مدينة دمنهور عاصمة البحيرة، وكنت أتردد على مقام الأنبا باخوميوس فى مبنى المزرعة وهو أقدم المطارنة تقريبًا على ساحة الكنيسة القبطية العامرة، وأتذكر فى حديثنا ذات صباح أنى شكوت من الآثار السلبية للانقسامات السياسية بين القوى الاجتماعية المختلفة فى محافظة البحيرة، فقال لي: سوف أزيدك من الشعر بيتًا على مستوى أقباط المحافظة وارتباط مجموعات منهم بشخصيات قبطية كبرى عبرت على تاريخ دمنهور، فالبابا الزاهد كيرلس السادس عمل موظفًا فى دمنهور قبل سنوات الرهبنة التى أوصلته إلى أرفع منصب بالكنيسة المصرية الأرثوذكسية، كما أن البابا شنودة قد عاش مع أخيه الأكبر الذى كان يرعاه ويعمل فى مدينة دمنهور أيضًا، وأضاف الأنبا باخوميوس: أما الأب متى المسكين فإن الصيدلية التى كان يعمل فيها فى وسط المدينة مازالت شاهدة على تاريخه ابنًا لهذا الإقليم المعطاء، وأضاف ذلك الحبر الراحل أن الأب زكريا بطرس المعروف بآرائه المتطرفة وأفكاره التى لا يتفق معه فيها جمهرة الأقباط هو أيضًا ابن مدينة دمنهور، وهكذا ترى أن مجموعات مختلفة تنتمى إلى هذه المدينة العريقة، وذلك قبل أن تأتى القرعة الإلهية بالبابا الحالى تواضروس الثانى وهو الذى تربى وعاش فى مدينة دمنهور وكان تلميذًا فى الرهبنة لأبيه الراحل نيافة الأنبا باخوميوس الذى ودعه الأقباط والمسلمون معًا إلى مقره الأخير، فالبابا الحالى ينتمى إلى دمنهور بالنشأة والتربية لكنه ينتمى إلى أسرة قدمت للبحيرة من مدينة المنصورة بتاريخها العريق بين المدن المصرية الكبرى، ولقد ظلت علاقتى بالأنبا باخوميوس وثيقة وقوية وعندما ألزمه المرض أن يكون طريح الفراش فى فترة عانى فيها كثيرًا كنت أتصل به فيأتينى صوته الواهن مؤكدًا أواصر المحبة ودعوات الصلاح، أما المصرى العظيم المستشار عدلى منصور فقل فيه ما تشاء خلقًا وعلمًا ووطنية، وقد كانت آخر مرة تشرفت فيها بلقائه أن جمعتنا مائدة الغداء بدعوة كريمة من العلامة الفقيه د.سعد الهلالى حين دعانى على شرف الرئيس الانتقالى السابق على الغداء فى منزله، لأن كلينا يحمل للرجل تقديرًا ومحبة لا يختلف عليها اثنان، وهانحن الآن نتذكر ذلك النمط الفريد من الانتقال الهادئ للسلطة السياسية على مستوى الوطن والدور الرائع الذى لعبه المستشار عدلى منصور أطال الله فى عمره، ونتذكر أيضًا الدور الهادئ والمتوازن الذى لعبه الأنبا باخوميوس على مستوى المؤسسة الكنسية القبطية بعد رحيل البابا شنودة وكيف تمكن مطران البحيرة من ترتيب الأوضاع فى نزاهة وخلق رفيع ومحبة زائدة، ومازلت أتذكر حفل التكريم الذى أقامه له الصديق العزيز د. نادر رياض بعد أن أدى الأنبا باخوميوس رسالته على نحو لن ينساه له المصريون فى حكمة وتواضع ثم عودته إلى مقره فى مدينة دمنهور مواصلاً رسالته تجاه أبنائه على نحو متكامل.. تحية له ولكل من أدى خدمة تقوم على إنكار الذات واحترام المبدأ مثلما فعل عدلى منصور ومن قبله الأنبا باخوميوس.. لقد كانت مهمة صعبة فى مرحلة انتقالية بلا صلاحيات كاملة أو قرارات ملزمة!