بقلم - مصطفي الفقي
شهدت أثناء حياتى الدبلوماسية فى دول مختلفة إجراء الانتخابات العامة لاختيار الرجل الأول فى الدولة، وذلك فى حالتى النظامين الرئاسى والبرلمانى، وأنا منحاز بالضرورة للنظام البرلمانى الذى عايشته فى بريطانيا والهند والنمسا، وهى الدول الثلاث التى عملت لعدة سنوات فى كل منها، وخرجت بانطباع مؤداه أن الدول ذات التاريخ الطويل والماضى العريق ترتبط أكثر بالنظام البرلمانى الذى يجعل الرئيس أو الملك هو من يملك ولا يحكم ويعطى رئيس الوزراء المنتخب من الحزب الذى حاز الأغلبية أو تمكن من قيادة الائتلاف الحاكم موقع الرجل الأول سياسيًا، بينما أولوية رئاسة الدولة - ملكية أو جمهورية – تكون للرئيس المنتخب الذى يمثل رأس البلاد (بروتوكوليًا)، ولم أندهش كثيرًا لسقوط أنديرا غاندى فى دائرتها الانتخابية وهى رئيسة الوزراء، وهو أمر حدث فى بلادنا ليحيى باشا إبراهيم الذى سقط فى الانتخابات البرلمانية وهو رئيس الوزراء، أمام أحد منافسيه، وكنت أتخيل أن الأمر يمكن أن ينسحب على بلادنا بحيث يكون هناك رئيس منتخب يحوز أدبيًا جميع السلطات ويملك ناصية التميز داخليًا وخارجيًا، ولكنه يترك الشأن اليومى فى السياسات المختلفة لرئيس الحكومة الذى يكون فى الغالب أصغر سنًا وأكثر شبابًا. بحيث يستطيع أن يقود الانتخابات وأن يتصدى للمعارك اليومية على الساحة السياسية، معتمدًا على أغلبية حزبه أو التجمع السياسى الذى ينتمى إليه تعبيرًا عن إرادة شعبية تنحاز لما يعبر عنه ذلك المرشح، الذى يبدو وكأنه الرئيس التنفيذى بينما رئيس البلاد يبدو أقرب إلى منصب رئيس مجلس الإدارة بمظاهره الفخرية وسلطاته الفوقية، وعندما فكرت فى هذا الشأن بالنسبة لبلادى ارتطمت الفكرة بالواقع الذى يؤكد ضعف البنية الحزبية فى مصر رغم أن لديها أحزابا نشأت منذ أكثر من مائة عام، وليكن حزب الوفد النموذج الذى أسوقه كحزب سياسى ظل على الساحة رغم اختفائه أحيانًا بحكم الظروف السياسية والملابسات التى تحكم طبيعة الأمور ومسار الأحداث، ورغم الضربات الموجعة التى تلقتها الأحزاب السياسية المصرية فى العقود الأخيرة خصوصًا فى ظل نظام يوليو الوطنى التحررى الذى رأى أنه يقوم نيابة عن الجميع بجميع التكاليف والالتزامات الخاصة بنظام الحكم بديلًا عن الديمقراطية بمفهومها الشائع، حتى عادت الأحزاب فى حكم الرئيس الراحل السادات وكانت الأجيال الجديدة بعيدة كل البعد عن فلسفة الحزب السياسى ودوره فى الحياة العامة، وهو الأمر الذى جعل النظام الرئاسى هو النظام المطلوب بالضرورة فى ظل ضعف الأحزاب السياسية وقدرتها المحدودة على تحريك البرلمان لكى يقود السياسات على نحو يمكن معه أن نسمى الدولة دولة برلمانية، وبالمناسبة فإننى أظن أن أكثر النظم الساسية استقرارًا هى الموزعة بين الملكية الدستورية وبين الجمهورية البرلمانية، وها نحن فى مصر نتهيأ فى الشهور المقبلة لانتخابات رئاسية ونحن فى منتصف الطريق وفى حالة اشتباك كامل مع منظمات اقتصادية دولية من مؤسسات (بريتون وودز) وفى ظل أحداث صاخبة تحيط بنا جنوبًا وغربًا وشمالًا وشرقًا، وهى ظروف تستوجب التمكين لإيجابيات الأوضاع القائمة واستبعاد بعض السلبيات التى تحيط بها، لذلك فإننى ألفت النظر إلى الملاحظات التالية:
أولًا: إن مصر دولة تتمتع برأى عام قوى بحكم أننا شعب كثير الحديث يجيد الثرثرة السياسية ولا يتوقف عن توصيف الأوضاع والحديث عن السلبيات، بينما قد يغمض عينيه عن إيجابيات أخرى مقتنعًا بأن ما يجب ذكره والإشارة إليه هو حجم السلبيات دون غيرها وهذه نظرة ظالمة، فأنا شخصيًا لى بعض الملاحظات على الأوضاع العامة، لا تبدأ بإرهاق ميزانية الدولة فى مشروعات كثيرة وفى وقت واحد، وصولًا إلى ما يصيبنى بالقلق الحقيقى على مكانة مصر التراثية بهدم بعض المقابر الإسلامية التاريخية إذا صحت المعلومات الواردة إلينا، ولكننا لا ننكر فى الوقت ذاته الكم الهائل والحجم الكبير من الإنجازات على الأرض التى جعلت البنية الأساسية فى بلادنا مختلفة تمامًا خلال السنوات العشر الأخيرة وهو أمر يجب أن نذكره بكل موضوعية وشفافية مهما تكن لنا من ملاحظات على الأداء الحكومى فى بعض القطاعات.
ثانيًا: إن استقرار القيادة فى فترات التحول أمر مطلوب، حتى الجيوش فى حروبها التاريخية كانت لا تغير الجياد أثناء المعركة، بل لا بد للقاطرة أن تمضى بمن وراءها من أجل استكمال ما بدأته والمضى على طريق لا يعرف التراجع، وقد تأكد لنا أن بعض سلبيات المرحلة قد جاء بتراكم تاريخى يدركه الجميع حتى غطى على بعض الإيجابيات، بل وإحالته بشكل تحكمى إلى سلبيات لا مبرر لها، وهنا تختفى الموضوعية ويضيع الحياد فى تقويم ما يدور وتحديد مسار الأحداث فى الحاضر والمستقبل.
ثالثًا: إننى أعترف بأن مصر – من بين أقطار الدنيا ودول العالم – لم تبرأ تمامًا من أمراض الإهمال والتواكل، بل والفساد أحيانًا، ولكن ذلك كله لا ينفى الحقيقة القائمة وهى أن تطورًا قد حدث وأن إنجازات قد تمت وأنه لا بد من قطف ثمار السنوات الصعبة الماضية مهما يطل الانتظار.
إننى أقول بموضوعية وحياد كاملين إن قضايا الحريات العامة وحقوق الإنسان والتعليم العصرى والرعاية الصحية المطلوبة تمثل هى وغيرها مفاتيح للمستقبل لا بد من استخدامها فى المرحلة المقبلة، فمرحبًا باستكمال المسيرة مع علاج أى أخطاء ومواصلة الطريق مع الحذر من أعداء الوطن فى الداخل وفى الخارج.. إنها مصر - أيها السادة – درة الزمان، وأيقونة المكان فى كل عصر وأوان!.