بقلم : مصطفي الفقي
إننى ممن يؤمنون أن المسئول القوى والمهاب من أطراف مختلفة يكون أنفع لنفسه ولمن حوله، ونقيس على هذه القاعدة وضع الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأمريكية "دونالد ترامب" وأبادر فأقرر بداية أن قراءتى لتاريخه الشخصى وتجربة الفترة الأولى لحكمه تؤكدان معًا أنه حليف قوى لإسرائيل وداعم شرس للدولة العبرية على حساب العرب والفلسطينيين وغيرهم، ومع ذلك فإننى أتصور أن مثل هذا الرجل القوى ضدنا والمنحاز بشدة لأعدائنا يمكن أن يكون هو الفرصة الأفضل لكسر الجمود فى مفاوضات التسوية السلمية للقضية الفلسطينية، ونعلم أن للرجل شطحاته وأفكاره الغريبة التى تبدو خارج السياق وكأنه طائر جارح يغرد خارج السرب، فالرجل الذى كان صاحب فكرة صفقة القرن هو نفسه الذى يملك فى حسابه الشخصى مليارات الدولارات وهو أيضًا رجل الأعمال الذى خبر الأسواق العربية والغربية معًا وترك بصمات قوية فى علاقاته التى لا تخلو من العنف، بل تبدو صدامية فى كثيرٍ من الأحيان، ولا أظنه سوف يتوقف عن ابتزاز الدول الثرية ماليًا أو المتميزة إستراتيجيًا، وهاهو يسعى حثيثًا للاستحواذ على كل شيء بل يسعى إلى فرض سيطرة على ربوع العالم، ولديه انحياز واضح للرجل الأبيض.
ولا أستطيع أن أزعم إمكان التعميم فيما نقول فقد تكون للرجل بعض الحسنات، وأنا كمصرى أذكر له موقفه العادل نسبيًا من الأزمة بين القاهرة وأديس أبابا حول الإجراءات الأحادية من جانب حكومة آبى أحمد فى أزمة السد الإثيوبى، فقد كاد ترامب فى رئاسته الأولى يصل إلى تسوية مقبولة للطرفين ولكن إثيوبيا وجدت من يهمس لها بألا تمضى فى ذلك الطريق لأن القضية ليست المياه وحدها ولكنها محاولة خنق مصر والتأثير على عملية التنمية فى أرضها، فالسد الإثيوبى كيدى بامتياز وليس تنمويًا فقط،إن الرئيس الأمريكى القوى الذى يحمل رقم 47 من بين سكان البيت الأبيض سوف يكون قادرًا أكثر من غيره على حسم القضايا الدولية المعقدة وفك طلاسم الأزمات السياسية الكبرى التى تضرب الكون فى كل اتجاه. كما أن الرجل يملك خلفية اقتصادية على مستوى الفكر والممارسة معًا تسمح له بأن يكون قادرًا على تقديم تلك الحلول الاقتصادية المقبولة لكثير من المشكلات المعقدة، ولذلك فإن موجة القلق المشوب بنزعة التشاؤم فى استقبال دونالد ترامب قد تكون غير مبررة بعمومها، ولكنها مقبولة فى بعض بنودها، ويتذكر المصريون أن الكيمياء الشخصية بين الرئيس الأمريكى الجديد والرئيس المصرى الحالى ترقى إلى درجة القبول المشترك وتعطى أملاً فى دور مصرى أكثر فاعلية وتأثيرًا فى المنطقة العربية ونطاق الشرق الأوسط بشكل عام، وأنا لا أبالغ هنا إذا سجلت شعورى العميق بأن الحاكم المتشدد يكون أكثر قربًا فى تحقيق النتائج من ذلك الذى يبدو متساهلاً ولا يدرك المعنى الحقيقى للمسئولية التاريخية التى يحملها.
ولقد قرأت بعض ما روى عن الإمام أحمد بن حنبل من أن حاكمًا به بعض الهنات ولكنه ينفع الناس ونفسه خير من آخر لا ينفع أحدًا، ولنتذكر فى تاريخنا المعاصر أن الرئيس الراحل أنور السادات وقع اتفاقية السلام مع الإرهابى الإسرائيلى المتشدد مناحم بيجن فى ظل حكومة الليكود التى تقع فى أقصى يمين الخريطة الحزبية للدولة العبرية.
بقيت نقطة مهمة يجب ألا تغيب عن تفكيرنا وأعنى بها أن قدرة الرئيس الأمريكى الجديد ترامب على الضغط على إسرائيل ويمينها المتطرف من المتشددين دينيًا سواء فى حكومة نيتانياهو أو غيره من المتطرفين أقوى جدا من ضغوط الرؤساء الأمريكيين السابقين المؤيدين لإسرائيل جميعًا وبغير استثناء ولكن بدرجات متفاوتة، فالأمر الذى لا خلاف عليه هو أن قوة الضغط على إسرائيل لابد أن تأتى من حاكم متشدد تجاه العرب وصديق وفى لإسرائيل فى الوقت نفسه، وقد يقول البعض إن جو بايدن كان صهيونيًا حتى النخاع ولكن لم تتحقق له القدرة فى الضغط على إسرائيل حتى اللحظات الأخيرة من حكمه، وذلك يؤكد الشعور أن قرار إيقاف إطلاق النار فى غزة قد جاء بسبب وصول ترامب إلى السلطة وليس بسبب رحيل بايدن عنها، إننى لا أدعى أن ترامب قديس وأن من سبقه هو إبليس، ولكننى أزعم أن طريقة الاستقبال العربية للرئيس الأمريكى الجديد إذا اتسمت بالحنكة والحصافة والذكاء مع شيءٍ من الاعتدال الذى لا يمس الثوابت العربية والقومية فإنها قد تؤتى ثمارها الحقيقية للقضية الفلسطينية المزمنة وهى قضية الأحرار فى كل مكان، بل قد تنال الاهتمام الأكبر من الرئيس الأمريكى الجديد خلافاً لكثير من التوقعات المتشائمة من جانب العرب، وفى علم السياسة لايمكن التنبؤ الكامل بما يمكن أن يحدث فى الأيام المقبلة.