الدولة الوطنية والطوائف الدينية

الدولة الوطنية والطوائف الدينية

الدولة الوطنية والطوائف الدينية

 العرب اليوم -

الدولة الوطنية والطوائف الدينية

بقلم - مصطفى الفقي

 

 (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم) هكذا خاطب الخالق البشر جميعًا بغير استثناء ولم يخص جماعة بذاتها أو طائفة بعينها بل جاءت الآية الكريمة عامة مجردة موجهة إلى الإنسان فى كل زمان ومكان،  وهى تدل على المساواة المطلقة من الخالق عز وجل تجاه مخلوقاته، مؤكدًا أن التقوى وحدها هى معيار التمايز، والتقوى بمعنى ارتياد الطريق السليم والمضى فى حياة سوية لا تعرف التعصب ولا تقبل العنصرية، بل إن القرآن الكريم لم يختص بهذا النداء الإلهى المسلمين دون غيرهم بل جعله نداءً مطلقًا للناس أجمعين على اختلاف أوطانهم وأديانهم وانتمائاتهم، ولذلك فإن الطائفية مؤشر اجتماعى وليست تمييزًا لطائفة على بقية المجتمعات، إننا نتذكر هذه المعانى المرتبطة بمحاور ثلاث يجب ألا تغيب عن الوجدان خصوصًا مع أيام الصوم فى شهر رمضان المبارك.

المحور الأول يدور حول الزخم الروحى الذى تطرحه مشاعر شهر الصيام لدى المسلمين وعيد الفصح لدى المسيحيين إلى جانب أعياد اليهود وثلاثتهم من أبناء إبراهيم صاحب ديانة التوحيد التى بشرت بها الديانات السماوية والحضارات الأرضية والثقافات ذات الطابع الإنسانى الذى أدى إلى قفزات كبرى ونقلات نوعية للإنسان عبر الزمان والمكان، لذلك فإننى أرى ــ مشتركًا مع جمهرة المؤرخين والباحثين  بل ورجال الدين ــ أن الطائفية داءٌ وليست دواء، وأنها علة مرضية إذا استبدت بالأقوام تؤدى إلى تفرقتهم وتمزيق وحدتهم وخلق أنواع لا طائل لها من التمايز بين البشر على أسس غير موضوعية لأنها تقوم على أفكار عرقية لا تمت بصلة للجوانب الإنسانية، فلقد خلقنا جميعًا أحرارًا ولم يفرض على عقولنا قيد من الاستبداد أو قهر عند لحظة الميلاد، ولكن الذى حدث أن أطماع الحياة وتقلباتها ونوازع البشر بل وخطاب الكراهية المعاصر هى فى مجملها التى صنعت تلك الصورة الضبابية التى نشهدها الآن وهى تغلف العلاقة بين أنماط بشرية وأجناس تشعبت لتصنع شعوبًا وقبائل دون تمييز مطلق أو مصادرة على المستقبل أو أحكام عشوائية تقوم على التمييز العنصرى والتفرقة البغيضة، ولقد ابتليت الأمة العربية بل وربما الأمة الإسلامية أيضًا بتمزق طائفى وضربات عنيفة للتماسك البشرى فظهر ملوك الطوائف وضاعت الأندلس وخرج العرب والمسلمون من شبه جزيرة إيبيريا وبقى الجميع يذرفون دموع الندم على تلك النكبة والتى خرج فيها اليهود أيضًا من إسبانيا واحتضنتهم دول الجنوب الإسلامى إلى أن ظهرت أسباب للفرقة وعوامل للاختلاف.

 أما المحور الثانى فهو ذلك المتصل بالحديث المغلوط عن العنصر النقى وشعب الله المختار، فلقد شهدنا تداعيات مريرة للانقسامات الدينية حتى داخل العقيدة الواحدة، فتعددت المذاهب وتنوعت الطوائف وأصبحنا أمام موزاييك عقائدى بينما الخطاب الإلهى فى الكتب المقدسة يتجه إلى الناس عامة وإلى الشعوب كافة دون تمييز أو إقصاء، بل لقد بلغت الطائفية مرحلة تحاول فيها تمزيق الدين الواحد إلى فرق وطوائف مع أنها تلتقى فى الأصول والجذور وتختلف فقط فى الفروع والتفاسير، وإذا كانت أوروبا العصور الوسطى قد ابتليت بالصراع بين السلطتين الروحية والزمنية، واختلفت لديهم النظرة الروحية لطبيعة السيد المسيح عليه السلام بين الربوبية والبشرية فإن الأمة الإسلامية على الجانب الآخر قد عانت كثيرًا من حالة الانقسام السنى والشيعى بعد واقعة التحكيم الشهيرة، رغم أن المذهبين الكبيرين يشتركان فى الإيمان بالإله الواحد وبكتاب الله القرآن الكريم وبأركان الإسلام الخمس ويتجهان فى صلاتهم إلى قبلة واحدة، ومع ذلك انقسم المذهبان إلى طوائف وشيع، بل وانقسمت الأخيرة بدورها إلى فروع متباعدة لا تدرك جوهر الرسالة المشتركة ولا تعرف قيمة الاندماج الدينى فى ظل أضواء التوحيد الذى يجمع ولا يفرق ويوحد ولا يشتت.

 أما المحور الثالث فهو ذلك الذى يتصل بالآثار السلبية للطائفية على الشعوب والمجتمعات، حيث تؤدى بالضرورة إلى حالة من التشرذم واصطناع الولاءات وقيام حالات من الانقسام التى لا مبرر لها ولا جدوى منها، والطائفية مرض معدٍ ينتقل بين المجتمعات وينخر كالسوس فى نخاع الاستقرار ويفتح أبوابًا للاختلاف الدينى الذى يتحول إلى خلاف سياسى، وهو بذلك يمزق نسيج الأمة ويهدد مستقبل أجيالها بالمنطق المغلوط والأفكار العبثية، وهنا أسجل صراحة أن ميلاد الدولة الحديثة بمظاهرها المعروفة والضمانات القانونية والسياسية لها والمناخ الثقافى الذى تخلقه والبيئة الاجتماعية الحاضنة، أقول إن هذه كلها دون غيرها القادرة على رأب الصدع وتسوية المنازعات بين الأطراف المختلفة عند اللزوم وهى بذلك تعبر عن الدولة الوطنية باعتبارها معطاة تاريخية نجمت عن التطور الطبيعى للجماعات البشرية حتى وصلت إلى آخر صورها وأكثرها ثباتًا وأشدها ملائمة لطبيعة العلاقات الدولية المعاصرة. ولذلك فإن محاولات التجزئة والتقسيم والتفريق على أسس طائفية هى أمر يطيح بالكفاءات ويصنع حواجز لا مبرر لها بين المجموعات البشرية ويدمر الوحدة الوطنية فى الوقت نفسه، وعلى الخريطة العربية  يمكن أن نتذكر كم عانى لبنان جراء التقسيم الطائفى الذى بدأ بميثاق 1943 ثم جرى تطويره فى اتفاق الطائف بعد ذلك بأكثر من نصف قرن حين تمخضت عنه حرب أهلية دامية دفع فيها ذلك البلد العريق الجميل فاتورة غالية. كما أن العراق عانى هو الآخر من بلاء الطائفية بدون مبرر حقيقى إلا ممالئة الإنجليز لأهل السنة عام 1920 وممالئة الأمريكان للشيعة فى 2003، أى أن التقسيم الدينى الطائفى دخيل على المنطقة وهى التى استظلت دائمًا بالحضارة العربية الإسلامية التى شارك فيها الجميع بما فيهم الأقليات اليهودية فى تلك الدول، ولذلك فإنه من العبث الحديث عن هذه التقسيمات، وجدير بالذكر أن الثورة السورية الجديدة تردد دائمًا التزامها بانتهاج مبدأ المساوة بين الطوائف المختلفة والابتعاد عن التقسيمات الطائفية دينيًا وعرقيًا، فالعرب والأكراد أبناء حضارة واحدة وثقافة مشتركة، كما أن كل الأقليات فى العالمين العربى والإسلامى جزء من نسيج واحد، فحتى الفرس والترك والكرد والأمازيج يشكلون باقة واحدة للتعددية فى إطار وحدة الدولة الوطنية، ولا يمكن للتقسيم الطائفى أن يقدم دول عصرية تضم وتقوى وتستقر وتعيش دون اضطرابات أو مشكلات، فالأصل هو حالة الانصهار الإنسانى والاندماج البشرى الذى يجعل من الدولة الوطنية الواحدة سبيكة متفردة لا تعرف التقسيم ولا تقبل التجزئة، ويجب أن نتذكر هنا أن المسييحين العرب كانوا هم رواد الحركة القومية ودعاة الوحدة وأنصار التلاحم الدائم، بل إن موقفهم فى القضية الفلسطينية ودعم حركات المقاومة العربية يدل على أن تلك التقسيمات التى تتردد هى تقسيمات وهمية وكيانات مصطنعة لا يمكن التعويل عليها أو البناء فوقها.

.. دعونا فى ختام هذه الملاحظات نرصد حجم المعاناة والفاتورة الغالية التى دفعها العرب فى العقود الأخيرة نتيجة الافتئات على الدولة الوطنية ومحاولة طمس معالمها لصالح أفكار وافدة أو عقائد مستوردة، بينما الأصل هو أن تظل الأمة العربية واضحة التكوين سليمة البنيان لا تقبل الاختراق ولا تتحمل الإضعاف الذى يأتيها من كل اتجاه ويسعى لتخريب وحدتها والتأثير فى تراثها الحضارى الضخم، ذلك أنها قامت وتقوم على أساس عريق من حضارات قديمة شارك فيها الجميع بلا استثناء سواء كانت فرعونية مصرية أو عربية سلامية أو بابلية آشورية أو فينيقية شامية، كما أن دول المغرب العربى كانت ولا تزال إضافة إيجابية للنسيج العربى القومى أمام كل الظروف الصعبة والمحن العابرة التى عرفتها المنطقة فى العقود الأخيرة، بل ربما القرون الماضية أيضًا.

arabstoday

GMT 22:05 2025 الثلاثاء ,11 آذار/ مارس

إفطار رمضانى مع وزير الخارجية

GMT 22:04 2025 الثلاثاء ,11 آذار/ مارس

صورة تحكى عن عطلة فى طنجة

GMT 20:15 2025 الثلاثاء ,11 آذار/ مارس

مفهوم العدالة بين نوزك وجون رولز

GMT 20:12 2025 الثلاثاء ,11 آذار/ مارس

من روائع أبي الطيب (35)

GMT 20:12 2025 الثلاثاء ,11 آذار/ مارس

من روائع أبي الطيب (35)

GMT 12:25 2025 الثلاثاء ,11 آذار/ مارس

إيران ورهان العودة إلى سوريا

GMT 12:24 2025 الثلاثاء ,11 آذار/ مارس

يعيشون في جهنم و….!

GMT 12:23 2025 الثلاثاء ,11 آذار/ مارس

تحديات شرق أوسطية ضاغطة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الدولة الوطنية والطوائف الدينية الدولة الوطنية والطوائف الدينية



الملكة رانيا بعباءة بستايل شرقي تراثي تناسب أجواء رمضان

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 12:45 2025 الثلاثاء ,11 آذار/ مارس

مي عمر تردّ على انتقادات "إش إش"
 العرب اليوم - مي عمر تردّ على انتقادات "إش إش"

GMT 11:54 2025 الإثنين ,10 آذار/ مارس

هكذا يشنّ العرب الحروب وهكذا ينهونها

GMT 11:53 2025 الثلاثاء ,11 آذار/ مارس

لبنان وحزب الله

GMT 03:51 2025 الثلاثاء ,11 آذار/ مارس

حق أصيل للناس

GMT 01:15 2025 الثلاثاء ,11 آذار/ مارس

شهيد في قصف للاحتلال الإسرائيلي جنوب غزة

GMT 01:13 2025 الثلاثاء ,11 آذار/ مارس

مسيّرات إسرائيلية على شرق مدينة غزة

GMT 01:14 2025 الثلاثاء ,11 آذار/ مارس

9 وفيات بالكوليرا في مخيم للاجئين بأوغندا

GMT 01:10 2025 الثلاثاء ,11 آذار/ مارس

قصف إسرائيلي على مواقع للجيش السوري في درعا

GMT 08:25 2025 الثلاثاء ,11 آذار/ مارس

"إكس" تتعرض إلى هجوم سيبراني ضخم
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab