بقلم - مصطفي الفقي
لعلنا نذكر – خصوصًا فى هذه الأيام – ما قام به شاب عراقى هو الكاتب الصحفى منتظر الزيدى الذى قذف بحذائه الرئيس الأمريكى السابق جورج دبليو بوش وهو يقف فى مؤتمر صحفى مشترك مع رئيس وزراء العراق حينذاك نورى المالكى، ورأينا على شاشات التلفزة الموقف كله وكيف تفادى بوش الابن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية القذيفة الأولى من فردة الحذاء اليمنى ثم القذيفة الثانية من فردة الحذاء اليسرى، وكيف كان تفادى الضربة الأخيرة للرئيس الأمريكى السابق بحركة سريعة منه تدل على لياقة بدنية واضحة، لقد وقف الخلق ينظرون جميعًا لذلك الحادث الفريد الذى لم نشهد له مثيلًا من قبل، وأتذكر أن رجال الأمن تكالبوا على منتظر الزيدى وطرحوه أرضاً كما لو كانوا يتعمدون الفتك به، وقلت وقتها: إنه شهيد الكرامة يمضى فى مواكب من يسجلون مواقف تاريخية لخدمة أوطانهم، وقد جرى حبس منتظر الزيدى لفترة جرى فيها تعذيبه ووضعه فى زنزانة انفرادية، كما تعرضت أسنانه وأصابع يديه للتكسير بسبب حملات الضرب والتعذيب التى خضع لها، وكنا نشعر بتعاطف مع ذلك الشاب العراقى الذى دفعته شهامته وكرامته إلى القيام بما فعله متحديًا سطوة أمريكا فى العراق حينذاك وإمكانية قتله فى أى لحظة داخل السجن أو خارجه، ومرت الأيام وقمت شخصياً بزيارة لمدينة بيروت بعد ذلك بعدة سنوات مدعواً من السيد نجيب ميقاتى رئيس وزراء لبنان الحالى للمشاركة فى ندوة حول الوسطية فى الفكر السياسى المعاصر، وفى مساء يوم زيارتى لبيروت كانت المفاجأة أن ألتقى فى الفندق الذى أقيم فيه الشاب الفدائى منتظر الزيدى الذى حكى لى تفصيلاً الواقعة وكان يبدو منشرحاً راضياً مؤمناً بأن ما فعل هو أقل ما يجب أن يكون تحية لمن غزا العراق ثم دمر العراق بلد النهرين صاحب الحضارة البابلية والآشورية ثم العربية والإسلامية، ولقد حكى لى يومها أمراً لم أكن قد التفت إليه وهو أن الجنود والحرس الأمريكى للرئيس عندما أمسكوا بالزيدى كان همهم الأول هو الحصول على فردتى الحذاء والجرى بهما إلى مكان غير معروف، وتفسيره لذلك أنهم كانوا يتوقعون أن يتحول الحذاء إلى رمز يجرى الاحتفال به من الجانب العراقى والعربى فى المناسبات المختلفة بوضعه فى فاترينة زجاجية داخل موقع يصبح مزاراً لكل من يريد أن يكتب عن تلك الواقعة الفريدة فى تاريخ العلاقات الدولية الحديثة، إننى أكتب الآن حول هذا الموضوع متذكراً أن الأستاذ منتظر الزيدى حكى لى يومها أيضاً أنه اشترى ذلك الحذاء من محل فى شارع جانبى متفرع من شارع الهرم بمصر فى أثناء زيارته لها قبيل الحادث، وكأنما كانت الأقدار ترتب لما جرى بحيث يكون الحذاء قذيفة عربية موجهة إلى وجه الرئيس الأمريكى حاملة كل معانى الأحزان التى عاشها العرب فى فلسطين والعراق وغيرهما من مناطق العدوان الأمريكى عليهم فى العقود الأخيرة، إننى أتصور أن ما فعله منتظر الزيدى كان حدثاً مدوياً فى وقته وسيظل رمزاً دائماً لرد فعل قومى ضد العدوان الأجنبى، ولقد تذكرت الأمر برمته عندما قرأت فى صحف القاهرة بتاريخ 15 ديسمبر 2023 تذكيراً بهذه الواقعة وآمنت بأن الزمن يمر وأن خمسة عشر عاماً لم تمسح ما جرى ولم تؤد إلى غياب ذلك الحدث الفريد عن الذاكرة العربية فى ظل أحداث غزة المأساوية والدعم الأمريكى المطلق لدولة إسرائيل بعدوانها الدامى الذى قتلت فيه آلاف الأطفال الفلسطينيين وألقت بالرضع منهم فى طرقات المستشفيات حتى جرى دفنهم تحت أرضها، ثم يتساءل الأمريكيون بعد ذلك: لماذا يكرهوننا؟ والإجابة ببساطة أنه لا توجد لدينا مشكلة مع الشعب الأمريكى بل العكس هو الصحيح، ولكن المشكلة الحقيقية هى مع التوجهات الصهيونية لبعض القيادات الأمريكية خصوصاً فى ظل أحداث غزة الأخيرة والانحياز الكامل والفاضح من جانب واشنطن ضد الشعب الفلسطينى بحجة القضاء على حركة حماس، متناسين أن السبب فى كل ذلك يبدأ من استمرار الاحتلال وعمليات القهر المستمر والسياسات العنصرية الاستيطانية التى لم تعد ذات مبرر خصوصاً ممن يتشدقون صباح مساء بحقوق الإنسان المعاصر، والذين يتحدثون عن الحريات وهم يخنقون كل حركة للتحرر الوطنى أو محاولة لتأكيد الشرعية الدولية أو أى نزعة تسعى نحو احترام حرية الإنسان وكرامته.