بقلم - مصطفى الفقي
يحفل التاريخ العربى الإسلامى بشواهد قاطعة على أن الدنيا لا تدوم وليس هو وحده ذلك التاريخ الذى يبرز هذه الحقيقة، فتاريخ الأمم وتطور الشعوب بل وحياة الأفراد تؤكد فى مجملها أنه لا يوجد فرح دائم ولا ازدهار مستمر، فالإمبراطوريات الكبرى سادت ثم بادت، وقديمًا قالوا ما من طائر طار وارتفع إلا كما طار وقع، ومازلنا نذكر من التاريخ العباسى على عهد هارون الرشيد نكبة البرامكة كنموذج للسقوط من الارتفاعات الشاهقة، فقد كان البرامكة هم الذين يحكمون تحت مظلة الخليفة العباسى، ولكن نفوذهم امتد وسطوتهم زادت وكانت كلمتهم هى العليا فى البلاد وبين العباد، وعصف بهم الرشيد وأعمل السيف فى رقابهم بحركة مفاجئة وغادرة وأنهى سطوتهم إلى الأبد، وذلك نموذج كرره والى مصر الكبير محمد على باشا حين أعمل السيف والبارود فى أجساد المماليك يوم المذبحة الشهيرة التى تحمل اسم مذبحة القلعة، واستطاع بتلك الحركة المفاجئة الغادرة أن يتخلص من خصومه ومنافسيه فى يوم واحد وانفرد بالسلطة ليحكم مصر هو وأبناؤه وأحفاده لما يقرب من قرن ونصف قرن، وهكذا يعلمنا التاريخ أن الزهو الزائد يعقبه انحسار كامل، لذلك دعانا القرآن الكريم إلى أن نقتصد فى الفرح والحزن معًا، فكلاهما حدث عابر لا يستمر أبدًا والدنيا تتغير والزمان قُلب ولا تبقى الدنيا على حال، ولقد قال داهية العرب معاوية بن أبى سفيان (ما من دار ملئت حبرة إلا وملئت عبرة)، ولا عجب فهو ذلك المؤسس لمفهوم الوراثة فى الخلافة الإسلامية بعد الراشدين الأربعة وهو الذى نادى بالبيعة لابنه يزيد على حياة عينه، كما أنه هو ذلك الحصيف صاحب العبارة الشهيرة (لو أن بينى وبين الناس شعرة ما انقطعت، إذا شدوها أرخيت وإذا أرخوها شددت)، لذلك فإننى شخصيًا تعودت منذ طفولتى على أن الحياة يوم لك ويوم عليك، وكنت أتذكر دائمًا فى لحظات الانتصار اللحظات الأخرى لكبوة الانكسار، وما أكثر النماذج التى عرفناها فى حياتنا وحياة غيرنا لذلك التألق الذى يعقبه خفوت، والتوهج الذى يأتى بعده شحوب، وليت الناس جميعًا يدركون هذه الحقيقة، ومازلت أتذكر أن أبى رحمه الله وقد كان إنسانًا طيبًا هادئًا متسامحًا ـ كان يقول لى: (يا بنى إن زهزهت الدنيا لك فتخوف منها، ولا تثق ثقة كاملة فيها، فدورات الزمان وتقلبات الأوان تجعلنا دائمًا نترقب ما لا نتوقع)، ولذلك يقول المصريون فى أمثلتهم الشعبية إذا ضحكوا كثيرًا (اللهم اجعله خيرًا)، فالمصرى بعبقرية الزمان والمكان عرف الصعود والهبوط والارتفاع والانخفاض وأدرك المعانى الرائعة لفلسفة الحياة وسنن الوجود ونواميس التطور، وهنا يعن لى أن أطرح ملاحظات ثلاثا:
أولًا: لا يعنى ما قلته فى السطور السابقة أننا يجب أن نركن إلى الاكتئاب والتشاؤم، فالمأثورة التاريخية تقول (تفاءلوا بالخير تجدوه)، كما أن القدرة على توظيف المواقف الإيجابية واللحظات الفارقة لخدمة المستقبل تتحول هى الأخرى بالطبيعة إلى مصدر للسعادة فى لحظات الرضا والألم معًا، فالمرء لا ييأس من رحمة الله ولا يقنط من عبوس القدر فكل شيء جائز وكل حقيقة لها أكثر من وجه، ولا ييأس من رحمة الله إلا من ضعف إيمانه وهبطت روحه، ولعل معظم الملحدين من مفتقدى الإيمان هم الذين يدركهم القلق والخوف ويستبد بهم بل ويضعهم أحيانًا على حافة الانتحار، فالإيمان منحة لا ينالها إلا من كان نقى السريرة طاهر الوجدان، فالمؤمنون – وإن اختلفت دياناتهم – يشتركون فى ذلك القدر من اليقين الداخلى والسلام النفسى الذى يجعلهم قادرين على مواجهة المصاعب والمتاعب بنفس راضية وإرادة قوية وعزيمة صادقة.
ثانيًا: لا يفرط المرء فى الحزن أو الفرح قدر ما يستطيع فهى أمور يحكمها شعور ذاتى لأن الذى نعيش فيه مؤقت بالضرورة كما أن مع العسر يسرًا وبعد الضيق فرجًا، ولست أدعو بذلك إلى نوع من التواكل أو أروج لغيبيات وهمية لكننى اعتصم بالمنطق العلمى فى مناهج التفكير وطرائق البحث وأساليب اتخاذ القرار، فلو تاه اثنان فى صحراء قاحلة فقد يموت الملحد يأسًا ويعيش المؤمن بسبب ما لديه من يقين وما يعتصم به من أمل وإحساس بأن القادم سوف يكون أفضل.
ثالثًا: لقد اعترانى وهم فى سنوات الطفولة جعلنى أظن أن أيام الأسبوع ليست متشابهة، فاليوم السعيد يعقبه يوم تشوبه التعاسة فى النفس ويستقر الضيق فى الوجدان.
وعندما كان يحدد لى موعد لامتحان أو اختبار كنت أتحسب له من خلال ترتيب ذلك اليوم فى دائرة الصعود والهبوط فى أعماقى دون أن يشعر أحد، وإذا جاء يومان سعيدان متتاليان توقعت التراجع بنفس القدر الذى كان به أمر السعادة، وأنا مؤمن فى النهاية بأن الإنسان ابن الموقف ونتاج البيئة وصنيعة المناخ ثقافيًا أو دينيًا أو علميًا، ومع ذلك يستقر فى وجدانى دائمًا أن الدنيا ليست على حال واحد وأن الحياة فرح وحزن، سعادة وبؤس، وأتذكر مقولة أبى (إن زهزهت خاف منها) فيعترينى إيمان عميق وارتياح صادق مؤمنًا بأنه لا يصح إلا الصحيح ولا يبقى إلا العمل الطيب، مدركًا أن خدمة الناس هى الرصيد الوحيد الذى يبقى لصاحبه ولو بعد فوات الأوان.