بقلم - مصطفي الفقي
فى وقت تحتدم فيه الصراعات، وتنشط الحروب، ويسود خطاب الكراهية من كل اتجاه، فى مثل هذه الأجواء الملبدة بالغيوم التى يغلف صباحها ضباب كثيف، ويغطى ليلها ظلام دامس، تلك البيئة التعسة وذلك المناخ البائس، يمكننا أن نخرج عن كل ذلك السياق فى سباق إلى الأمام نتطلع فيه إلى طى صفحة مؤلمة على حدودنا الشمالية الشرقية، حيث لا تزال الآلام والأحزان والدموع هى لغة التخاطب بين أبناء الشعب الفلسطينى، خصوصًا فى قطاع غزة المكلوم الذى دفع فاتورة شديدة الغلاء بعملة جديدة منها الأطفال حديثو الولادة الذين تجمدت أطرافهم فغادروا الحياة بعد ساعات قليلة من دخولها، فضلا عن التجويع وتدمير المشافى وتحويل القطاع إلى أنقاض وركام وبقايا جثث وأشلاء، فهل تستقيم هذه الصورة الصعبة مع حديثنا عن النسيان والغفران؟! إننى أتذكر يوم وفاة أمى حين جاءتنى إحدى قريباتى المسنات وقالت لى لا تبتئس فكل شيء يبدأ صغيرًا ثم يكبر إلا الحزن، فهو يبدأ كبيرًا ثم يبتعد كالضوء الشاحب ويصبح ذكرى أليمة فى أحد أركان العقل البشرى، ولقد كنت شديد الإعجاب بعبارة يجرى ترديدها بالإنجليزية تقول (إن الحياة فى النهاية هى نسيان وغفران)، ولقد عاودتنى تلك العبارة كثيرًا وأنا أتساءل: هل يمكن أن تنسى الأجيال الجديدة من الشعب الفلسطينى أبعاد المأساة التى عاشوها، وهل يمكن أن تتسع مساحة الغفران لتحتوى أسبابًا للصفح والتسامح؟ إن الأمر بلا شك شديد الصعوبة ولكنه ليس مستحيلا، ومازالت تقبع فى ذهنى صورة مجموعة من الشباب من أبناء ضحايا فيتنام الذين فقدوا آباءهم فى تلك الحرب وسمعوا عن ويلاتها، فإذا بهم يقابلون الرئيس الأمريكى السابق بيل كلينتون بابتسامة ود ونظرة عفو ومحاولة لتجاوز الماضى والتهيؤ للمستقبل، ويومها كتبت الصحف أن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية يستقبل أولاد وأحفاد الحرب الأمريكية على بلادهم وكأنما يتطلع لطى صفحة كاملة والنظر إلى صفحة بيضاء جديدة تكتب فيها الأجيال الشابة تصورًا مختلفًا للحياة والأحياء، كانت تلك المناسبة بمثابة لقاء بين الضحايا والجلاد حتى وإن لم يكن الشخص بذاته، إلا أنه رمز لبلاده التى تنشر الحروب غير المبررة فى كوريا وفيتنام وأفغانستان والعراق وتكفلت بالإمداد العسكرى للحرب على أهل غزة، وأنا لا أفترض هنا أن الفلسطينيين ملائكة ولا أن العرب نبلاء، ولكننى متأكد تمامًا أن ميزان العدل يتأرجح لصالحهم ضد قوى العدوان الذى يرتبط بواحدة من أكبر جرائم العصر وأكثر مآسيه ضراوة وظلمًا، وقد ينقسم البشر إلى فريقين، فريق يقول تذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وفريق آخر يرى غير ذلك وأن ما حدث يأخذ مكانه فى الماضى وينبغى ألا يؤثر على المستقبل، ولكن قد يكون هناك فريق ثالث يرى أنه لا وجود لمن لا ذاكرة له، فالذاكرة هى متحف الزمان والمكان، منها يستدعى المرء الأحداث والمواقف والرؤى والأشياء، لذلك فإنها مرآة للماضى ولكنها كاشفة للمستقبل أيضًا، بالقياس على ما جرى والاحتكام إلى ما مضى، وعندما نشطت الكنيسة فى أوروبا وظهر عصر مارتن لوثر وكالفن وغيرهما بما كانوا يحملونه من صراع بين السلطتين الزمنية والروحية، فى ذلك الوقت شاع تعبير «صكوك الغفران» وكأنما يستطيع الإنسان شراء سهمٍ فى جنات النعيم، وبالقياس على حياتنا المعاصرة فإننا نردد دائمًا أن جزءًا كبيرًا من متاعب الحياة سوف يكون خصمًا من راحة الآخرة، ولقد نشطت نظريات تناسخ الأرواح والحديث عن الحياة بعد البعث، وكلها ذات دلالات على أهمية التعايش مع الماضى والتركيز فى المستقبل بنفس راضية وقلب مفتوح وعقل متسامح، إننى أريد أن أركز هنا على نظرية تغير الظروف فى حياة البشر، وأن ما هو مرفوض اليوم قد يكون مقبولا غدًا والعكس صحيح أيضًا، فالإنسان ابن زمانه ومكانه وحياته جزء لا يتجزأ من البيئة التى يعيش فيها والمناخ الذى يسعى من خلاله، وليس لدى شك فى أن الدنيا يوم لك ويوم عليك وأن الحياة لا تسير على وتيرة واحدة، وأن المأزوم اليوم قد يكون هو المنتصر غدًا، وعلى الإنسان ألا يحزن كثيرًا وألا يفرح طويلا، فالدنيا تتغيّر والزمان يتحول ولابد من النسيان والغفران باعتبارهما الثنائى الذى ينظم حركة الكون وتطور الحياة ومسيرة الإنسان.