بقلم - مصطفي الفقي
تطفو على سطح الذاكرة بين حين وآخر شواغل مأساوية مرت بالإنسان على المستويين الشخصى والعام، وهى هواجس تؤرق حالة السلام النفسى التى يتطلع إليها المرء للخلاص من أعباء الزمن وأثقال العمر، ومازلت أتذكر ابتسامة أمى الهادئة وهى فى غيبوبة كاملة تودع الحياة على فراش الموت وأتذكر أبى أيضًا وهو يصارع سكرات الموت فى لحظاته الأخيرة وكيف كان سمحًا بعد كل معاملاته الدنيوية ومراحله البشرية، ومازلت أتذكر مساء التاسع من يونيو ١٩٦٧ والظلام يلف القاهرة وأصوات المدفعية المضادة للطائرات تهز الأحياء القديمة والقاهرة تبكى الهزيمة والقائد يعترف بما جرى ويتحمل المسئولية مستأذنًا فى الرحيل، وكنت وقتها شابًا فى السنوات الأولى من عشرينيات العمر ولم يمض على تخرجى فى الجامعة إلا عام واحد.
لقد كان ذلك زلزالًا عنيفًا هز كيانى إذ لم يكن يدور فى خلدى شبح الهزيمة فقد كانت توقعاتنا تدور حول النصر المنتظر، كما أتذكر الأن لحظات مفصلية بحياتى عندما اتصل بى هاتفيًا الراحل اللواء جمال عبد العزيز السكرتير الخاص للرئيس مبارك ليبلغنى بانتهاء انتدابى فى مؤسسة الرئاسة وأتذكر أن خالى الأكبر كان يجلس مع أمى التى كانت فى زيارة لأسرته وعلم بخبر انتهاء مهمتى سكرتيرًا للرئيس مبارك فسأل أمى عن أخبارى فقالت له: إننى أدعو الله أن يفك أسره من هذا الموقع الذى يشغله وما يمكن أن يؤدى إليه مهما طال الوقت، فقال لها: كأنك تقرئين فى كتاب مفتوح لقد ترك ابنك موقعه فى الرئاسة من ساعات قليلة، فقامت أمى بشفافيتها الزائدة وحصافتها المعروفة فتوضأت وصلت ركعتى شكر لله لأن ابنها لم يعد رهين تلك الوظيفة التى تسحق المرء نهارًا وتؤرقه ليلًا ووجدتنى حرًا طليقًا أفكر كيفما أشاء، وأكتب كيفما أريد، وأقول ما أقول من كلمات بغير حساب، وأتحدث فى الهاتف دون رقيب إذ إن حرية الإنسان هى أغلى ما يملك، فعندما أبدعت أم كلثوم فى رائعتها (الأطلال) قائلة :اعطنى حريتى أطلق يديا، إنما كانت تعبر عن تطلع الإنسان نحو نسمات الحرية ورفضه للقيود مهما يكن الثمن.
إننى أتذكر لحظات حزينة أخرى فى حياتى عند رحيل عبدالناصر وشعورنا بالقلق والخوف والأرض محتلة بعد أن وجهت إسرائيل ضربات إرهابية للوطن المصرى، كانت منها مدرسة بحر البقر وأبو زعبل وغيرهما، ومازلت أتذكر أيضًا عندما كنت يوم السادس من أكتوبر عام ١٩٨١ فى جريدة الأهرام أتابع صدور كتاب (الشعب الواحد والوطن الواحد) الذى اشتركت فى تأليفه مع المستشارين طارق البشرى ووليم سليمان قلاده بمقدمة من أستاذنا الراحل الدكتور بطرس بطرس غالى وفى أثناء وجودى فى مبنى مؤسسة الأهرام توقف البث التلفزيونى فجأة ومرت لحظات ثقيلة حتى أعُلن رحيل الرئيس السادات إثر مصرعه أثناء العرض العسكرى فى يوم ذكرى انتصاره، ولاشك أن هناك لحظات أخرى تفتح ملفات حزن دفين مثل الذى أراه فى عيون أطفال غزة وكأنهم يتساءلون فى صمت عما يجرى حولهم ويودعون الحياة ببراءة الاطفال بعد قصف المستشفيات وإجراء الجراحات دون مخدر، ويحدث ذلك المشهد والعالم يتابع تلك الوقائع ولا يحرك ساكنًا، إنها أيام تذكرنى بما كتبه المفكر اليسارى الراحل عبد العظيم أنيس فى كتابه (الحب والحزن والثورة) بعد رحيل قرينته فى حادث مأساوي، وإذا كنا نستعرض لحظات الحزن والأسى فإننا نتذكر أيضا لحظات الرضا والسعادة ونرى أن رحلة الحياة هى مزيج من الحالتين معًاً.. إننى أكتب هذه السطور فى غمار أحداث فارقة تمر بها المنطقة وأيام فاصلة يعيشها الوطن المصرى الذى تحيط به التحديات وتتزاحم حوله الأزمات ولكنه سوف يبقى عصيًا على السقوط أو حتى التراجع فهو وطن صهرته مسيرة التاريخ الطويلة وما أكثر ما مر به من لحظات صعبة وأيام قاسية، وسوف يطلع الفجر ذات صباح وتشرق الشمس ذات يوم كى تجمع أشلاء أطفال فلسطين الذين كتبوا بدمائهم أسطورة حية للنضال من أجل الحرية حبًا فى الوطن وإيمانًا بأن الشعوب لا تموت وأن الجرائم لا تسقط بالتقادم وأنه لا يضيع حق وراءه من يضحى من أجله ويموت فى سبيله، إن الأحزان الدفينة التى استقرت فى أعماقنا والذكريات الأليمة من النكبة إلى النكسة ثم النزوح الحزين والتهجير القسرى لن تمر سدى، خصوصًا أن العرب قد قبلوا فى معظمهم حقيقة التعايش المشترك شريطة رد الحقوق إلى أصحابها واسترداد الأوطان لأهلها ومع ذلك تنكر لهم أصحاب الفكر العنصرى العدوانى الاستيطانى الذى لا يعترف بالشرعية الدولية ولا الاعتبارات الإنسانية ويتوهم أن الاستقواء بالأجنبى هو سنده الأوحد.. سوف تمضى القوافل وكما قلنا فسوف يبزغ الفجر الصادق وتطلع الشمس الذهبية بأشعة الحياة!