القوميات والأيديولوجيات

القوميات والأيديولوجيات

القوميات والأيديولوجيات

 العرب اليوم -

القوميات والأيديولوجيات

بقلم - مصطفي الفقي

شهدت الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى ونهايتها عام 1918 بداية ميلاد أيديولوجيات جديدة تعتمد على الفكر المادي في نظرياته الحديثة وأخص تحديداً أيديولوجيتين، الأولى هي "الماركسية الشيوعية" من خلال الآباء المؤسسين بمن فيهم كارل ماركس صاحب كتاب "رأس المال" وفلاديمير لينين الذي شيد أركان الدولة الشيوعية حتى حملت اسم الاتحاد السوفياتي قبيل بدايات حكم ستالين "جزار الأقليات" داخل المجموعة السوفياتية.

وفي الوقت نفسه انبرى أدولف هيتلر على الجانب الآخر ليؤطر للأيديولوجيا الثانية ويرفع شعاراً قومياً متطرفاً ينادي بسمو العرق الألماني وسيادة "الدم الآري" على ما عداه وفي خلفيته هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وضرورة الثأر لها مدعياً أن اليهود كانوا من أسباب هزيمته.

وأقصد بهذه المقدمة أن ألفت النظر إلى أن ميلاد الأيديولوجيات والقوميات المعاصرة ازدهر في وقت واحد بعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى باعتبارها أول حرب كونية عرفها الإنسان المعاصر، وأدى الأمر إلى انقسام أيديولوجي في أوروبا وخارجها وأصبحنا أمام اختلاف واضح بين النظم إلى أن جاءت الحرب العاليمة الثانية لكي تبرز دور الحلفاء وتنتهي بتراجع دول المحور والنهاية المعروفة لأدولف هتلر وموسوليني (الدوتشي) في إيطاليا، وبذلك لاحظنا أن هناك سلسلة متصلة من الصعود والهبوط لا نكاد نجد لها نظيراً في فترات أخرى من تاريخ الجنس البشري، ولذلك فإن الأيديولوجيا والقومية تلتقيان حول مفهوم المعتقد بكل آثاره العميقة وتداعياته القوية لأن كلتيهما تمثلان عقيدة راسخة وفكراً دفيناً، ولعلنا نرصد هنا الملاحظات التالية:

أولاً: إن القومية تعبير عن تجمع إنساني حول شعور بالمشترك الثقافي، ولقد جاء في الذكر الحكيم قوله تعالى "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"، وهذا النص القرآني يشير في دلالة واضحة إلى انتفاء التعارض بين الأديان والأوطان ويؤكد أن التشعيب، أي ميلاد شعوب مختلفة، يشير في دلالة واضحة إلى أن القومية كيان بشري ضخم يقوم على الانتماء والولاء، ولو أخذنا مفهوم القومية العربية كمثال فسوف نجد أنه قد ولد في أحضان الشام الكبير منذ ولاية معاوية بن أبي سفيان والتطلع إلى تأسيس دولة غايتها الحكم ولكن جوهرها العقيدة، فالقومية وعاء إنساني رحب يحتوي أجناساً مختلفة تنصهر في بوتقة القومية من دون عنصرية أو تعصب بغير اعتماد على أجناس بعينها أو أفكار بذاتها، فتعريف العربي لدينا هو أنه كل من تكون العربية لغته الأولى بغض النظر عن المعتقد الديني أو المذهبي ومن دون اعتبار لجنس أو لون أو مذهب فكري.

وهنا يختلف مفهوم القومية في دلالته الواضحة عن مفهوم الأيديولوجيا في نظرته المحددة فقد تكون القومية مشتركة ولكن الأيديولوجيا متناقضة، كما أنه يمكن أن يحدث العكس فتكون الأيديولوجيا واحدة بينما تنضوي تحت لوائها تجمعات بشرية تجمعها عناصر مشتركة وعوامل مستقرة تعتمد في معظمها على البعد الثقافي، ولذلك فإنني ممن يعتقدون بأن أدق تعبير للقومية هو ارتباط الإنسان بجماعته البشرية أي إن الوطن في حد ذاته هو واحد من مظاهر التوحد البشري ولا خلاف على الإطلاق بين الأديان في هذا الشأن ولا يتعارض مفهوم الوطنية كأحد أركان القومية مع هذا المعنى، وحتى الإسلام الحنيف الذي تحدث كتابه المقدس عن مفهوم الأمة هو نفسه ذلك الدين العظيم الذي نظر نبيه، صلى الله عليه وسلم، إلى مكة وهو يبرحها في هجرة مبكرة إلى يثرب فقال مخاطباً مدينته المفضلة مكة المكرمة "والله إنك أحب بلاد الله إليَّ ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت"، وهذا المعنى يؤصل مفهوم ارتباط الإنسان بالوطن ويجسد معنى القومية في أوضح صورها ولو على نموذج مصغر لمفهوم الأمة بعد ذلك.

ثانياً: إن الأيديولوجيا يمكن أن تكون غطاء دينياً في قليل من الأحيان ولكنها غطاء سياسي في معظم الأحيان، ولو تأملنا أوضاع الاتحاد السوفياتي السابق لوجدنا أن غطاء الدولة الشيوعية كان يظلل الجمهوريات المختلفة وقد تكونت من قوميات متباينة ولكن الأيديولوجيا الفكرية والعقيدة السياسية كانتا الغطاء الواسع لأطراف الدولة الكبرى كافة مهما كانت عوامل الاختلاف ومصادر النشأة.

ولعل الصراع الأوكراني - الروسي يوضح لنا كيف أن تفكك الاتحاد السوفياتي الكبير أفرز كيانات تصل العلاقة بينها إلى حد الحرب المسلحة والمعارك الدامية كما نشهدها اليوم، لذلك فإن الأيديولوجيا ذات الطابع السياسي لا تحمي أطرافها من أسباب الاختلاف الكامن وعوامل الصراع الخفي، بينما التوحد القومي يستوجب ذلك ويعطي انطباعاً مؤكداً لأنه يعني الدماء المشتركة التي تجري في عروق الأطراف كافة، فالقومية وعاء يحمي أطرافه بحكم رابطة التوحد إلى جانب المشترك الثقافي الذي يجمع بوتقة الوجدان الواحد ويصنع الإحساس المتبادل في ظل القومية الواحدة، ولننظر إلى عالمنا العربي الذي يموج باختلافات عدة وتباينات في الآراء والمواقف أمام عدد من المشكلات ولكنه يظل في النهاية محتفظاً بالحد الأدنى من أسباب التوحد رافضاً عوامل الاختلاف متمسكاً بالجذور العميقة للقومية العربية وتأثيرها القوي في المشرق والمغرب على حد سواء.

ثالثاً: إن التعارض بين القومية والدين غير وارد لدى القوميات كافة، ونحن نرفع شعاراً يقول "لا تعارض بين الأوطان والأديان" وهو أمر يختلف بالنسبة إلى الأيديولوجيات التي قد يخاصم بعضها الشعور الديني ويعصف بالمؤسسة الروحية مثلما حدث في سنوات الاتحاد السوفياتي السابق، وما زلنا نتذكر العبارة الماركسية التي تقول "إن الدين أفيون الشعوب"، وهي عبارة ظالمة تضرب الأيديولوجية الماركسية في مقتل، وها هي العودة للكنيسة الأرثوذكسية في أنحاء جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق إلى جانب الإسلام الحنيف في جمهورياته ذات الغالبية المسلمة، وقد أديت شخصياً الصلاة في مسجد موسكو الجديد ولم أر نظيراً له من قبل في روعة البناء ودقة التنظيم والخدمات اللوجستية المحيطة بذلك البناء الإسلامي الشامخ في قلب العاصمة موسكو، وبذلك نرى للقومية ميزة تتفوق بها على الأيديولوجيات ونعني بها التصالح الديني الذي يسود أنحاء القومية الواحدة بخلاف الأمر بالنسبة إلى التفاوت الروحي داخل الأيديولوجيا الواحدة.

خلاصة ما أهدف إليه من هذه السطور هو أن أسجل العلاقة الجدلية بين القومية والأيديولوجيا وكيف أن عصر القوميات الذي كان تراجع بفعل الانقسام الفكري للعالم بعد الحرب العالمية الثانية عاد من جديد ليحدد الملامح البارزة في الدولة القومية حتى لو كانت رزحت تحت غطاء أيديولوجيا معينة لعقود عدة، فنحن ننتقل من عصر الأيديولوجيات إلى عصر القوميات، وتستدعي كلمة القومية مفهوماً خاصاً للدولة الوطنية التي نرى أنها هي القلعة الأخيرة للبناء الدولي في عالمنا المعاصر.

وستظل للقوميات اليد الطولى في تحريك مسار الأمم وتدافع الشعوب مهما طال أمد الأيديولوجيا حتى لو تغطت برداء ديني إلى حين، إن القومية وعاء إنساني لا يمكن تحطيمه كل الوقت ولا أزال أكرر أن تجربة استمرار القوميات تحت الغطاء الأيديولوجي للاتحاد السوفياتي هي خير دليل على صحة القول الذي يرى أن الأيديولوجيا يمكن أن تكون زائلة ولكن القومية تظل دائماً هي الباقية، إننا كأمة عربية نبدو في حال تماسك ولو ظاهري بمنطق قومي يعلو فوق غيره من الانتماءات والولاءات.

arabstoday

GMT 13:05 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله بخير

GMT 11:57 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مرحلة دفاع «الدويلة اللبنانيّة» عن «دولة حزب الله»

GMT 11:55 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

هل هذا كل ما يملكه حزب الله ؟؟؟!

GMT 20:31 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عشر سنوات على الكيان الحوثي - الإيراني في اليمن

GMT 20:13 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

صدمات انتخابية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

القوميات والأيديولوجيات القوميات والأيديولوجيات



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 22:13 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

تعليق التدريس الحضوري في بيروت ومحيطها حتى نهاية العام
 العرب اليوم - تعليق التدريس الحضوري في بيروت ومحيطها حتى نهاية العام

GMT 21:25 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

هوكشتاين يُهدّد بالانسحاب من الوساطة بين إسرائيل ولبنان
 العرب اليوم - هوكشتاين يُهدّد بالانسحاب من الوساطة بين إسرائيل ولبنان

GMT 15:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
 العرب اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 08:50 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
 العرب اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 14:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
 العرب اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 07:23 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"فولكس فاغن" تتمسك بخطط إغلاق مصانعها في ألمانيا

GMT 06:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 15:39 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

رانيا يوسف تخوض تحديا جديدا في مشوارها الفني

GMT 15:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 14:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 08:18 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض مسيّرة قبالة سواحل حيفا

GMT 17:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

حماس تعلن مقتل رهينة بقصف إسرائيلي شمالي غزة

GMT 08:28 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يحول الرسائل الصوتية إلى نصوص بلغات منها العربية

GMT 08:16 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

"حزب الله" يعلن استهداف قوات إسرائيلية في الخيام والمطلة

GMT 08:32 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

GMT 22:49 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

غارة إسرائيلية على معبر حدودي بين سوريا ولبنان

GMT 17:46 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الشيوخ الأميركي يطالب بايدن بوقف حرب السودان

GMT 23:03 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الملكة كاميلا تكسر قاعدة ملكية والأميرة آن تنقذها
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab