بقلم - مصطفى الفقي
نعم إن الثمن فادح، والخسائر ضخمة، وحجم الدماء والأشلاء والجراح لا يعادله ثمن إلا حرية وطن.. نعم ليس هناك ما يعوض دموع الأطفال وجثامين الرضع وآلام الثكالى ولوعة الأرامل، كل ذلك نعرفه وندركه، ولكننا نعرف وندرك أيضًا أن الآلام العظيمة هى التى تصنع الأمم العظيمة وما جرى فى الأرض الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ هو عربون الحرية وثمن الكرامة، بل إنها أوراق اعتماد الشعب الفلسطينى المناضل من أجل حقوقه المشروعة، وأرضه السليبة، ودياره المهدمة، وقوافل الشهداء والنازحين والمهاجرين من أجل حرية شعب دفع أغلى مقابل لأشرف هدف وأنبل قصد وهو الوطن المفدى دائمًا، لن أقع فى ذلك الشرك الذى يردده البعض فى العالم العربى وإسرائيل أن حماس لعبت دورًا مخططًا بتحريك من أجهزة الاستخبارات المعقدة داخل إسرائيل وخارجها على نفس النمط الذى جرت به أحداث ١١ سبتمبر عام ٢٠٠١ فى أبراج نيويورك كما أرفض الاستسلام للتخريجات التى تشير إلى نظرية المؤامرة وتجعل منها التفسير الذى أدى إلى ما وصلنا إليه، فالفلسطينى الحقيقى لا يتآمر على وطنه ولا يتلاعب بمصير آماله القومية وأهدافه الوطنية، وقد يتساءل البعض لماذا إذًا هذا الحجم من الدماء والدمار الذى لحق بالشعب الفلسطينى وكافة طوائفه وفئاته منذ ما جرى فى السابع من أكتوبر عام ٢٠٢٣؟ هل كان الهدف هو تحريك القضية الفلسطينية واستعادة الزخم العالمى لها؟ وهل كان فى وعى من دبروا ذلك أن الثمن سوف يصل إلى ما وصلنا إليه؟ حتى لو كان الأمر كذلك فهناك من يرى أن الحرية لا ثمن لها فهى أغلى من كل الأثمان، وهى أعز من كل المطالب والمقابل لها لا حدود له ولا مقارنة له بغيره، فالأثمان ليست أغلى من الأوطان، وأنا أظن أن ما جرى سوف يصب فى خانة الحق الفلسطينى الضائع والشعب الباسل مهما طال الزمن وتراكمت الكوارث وبدت الخسائر فادحة، إننى أسجل هنا أن الشعب الفلسطينى قد شد انتباه العالم كما لم يحدث على امتداد خمسٍة وسبعين عامًا، كما أنه اكتسب تعاطفًا دوليًا غير مسبوق، بل إن حكام الدول الأجنبية ورؤساءها قد سجلوا مواقف غير مسبوقة فى تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى وتلقت إسرائيل إدانة سياسية وقانونية وقضائية لم تعرفها من قبل، إن الطريق لحل الدولتين قد أصبح واضحًا ويحظى بدعم دولى كاسح حتى إن الولايات المتحدة الأمريكية حامية إسرائيل بالحق والباطل قد أصبحت تؤكد هى الأخرى أن حل الدولتين هو المخرج بحيث يكون للفلسطينيين دولتهم المستقلة وعاصمتها فى القدس الشرقية، وأصبح ذلك الأمر مطروحًا على مائدة التفاوض القادم أمام العالم كله، إننى مؤمن بأن الضوء يأتى من قلب الظلام، وأن الحق يولد من رحم المعاناة ولن تضيع عذابات الشعب الفلسطينى سدى برغم غطرسة نيتانياهو والتصريحات المستفزة من الجانب الإسرائيلى، فإذا الشعب يومًا أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر، هكذا قال أبو القاسم الشابى منذ عشرات السنين كأنما أراد أن يسجى التهنئة للشعب الفلسطينى من بعيد ولو بعد حين، وهنا أطرح ملاحظات ثلاثا:
أولًا: إن وحدة الصف الفلسطينى وراء قيادة وطنية تحظى بشعبية هو المدخل الأول لتحقيق أهداف النضال الذى يمارسه ذلك الشعب العظيم فى أحلك فترات الظلام عبر تاريخه كله، لذلك فإن التحام القوى الفلسطينية وراء قيادة واحدة وبأسلوب واعٍ ومدروس وتعاملٍ ذكى مع الرأى العام الخارجى والقوى الموجودة فيه كل ذلك يحتاج منا إرادة قومية وصلابة فلسطينية لا تسمح بالتسرب بين صفوفها المتماسكة أو العبث بعقلها الواحد الذى تغلفه مشاعر يعرفها الفلسطينيون على امتداد ثلاثة أرباع قرن كامل وما بعده من سنوات النضال الدامى ومواجهة السلاح والعتاد الذى يتدفق على الدولة العبرية كل يوم.
ثانيًا: إن دول الوطن العربى يجب أن تفصل بين المسار الطبيعى للعلاقات الدولية المعاصرة وبين دعمها المطلق للحق الفلسطينى، لأنه فى النهاية حق عربى عرفه أباؤنا وأجدادنا منذ أعلن وزير الخارجية البريطانى بلفور وعده المشئوم فى ٢ نوفمبر عام ١٩١٧، ويجب أن ندرك أنه لا يصح إلا الصحيح فى النهاية، وأن الأمل هو الشىء الوحيد الذى يدعم الكفاح الفلسطينى فى كل مراحله، ولنعلم أن إسرائيل التى برعت فى توزيع الأدوار لابد من مواجهتها بتوزيع مماثل للأدوار العربية شريطة أن يكون ذلك فى إطار الثوابت القومية.
ثالثًا: إن الجبهة الفلسطينية يجب أن تكون دائمًا عصية على الاختراق، قوية أمام الغير، واعية بأهمية الرأى العام العالمى فى دعمها حتى تظل القضية حية يشعر بها الجميع فى كل وقت وتدعمها الشرعية الدولية على نحو يختلف عما كانت عليه فى السابق، إذ لا بد من تسجيل المواقف والأحداث بلغة عصرية تجهض مخططات إسرائيل وأحلام نيتانياهو وأمثاله، وقديمًا قالوا: لا يضيع حق وراءه مطالب.
تلك رؤيتنا المبدئية فى غمار الأحداث الجسام والظروف شديدة الحساسية بالغة التعقيد!