بقلم : مصطفي الفقي
هو صاحب موقع متميز بين شيوخ الأزهر وعلمائه الصالحين وكلما تابعت صلابة الإمام الحالى أحمد الطيب ومكانته الدولية أدركت أن الأزهر منجم دائم ومعطاء أبدًا يبعث إلينا بين حين وآخر بعلماء زاهدين فى المنصب، ولكنهم متمسكون بالحق والدعوة إلى الله، لا يبغون من إمامة الأزهر الشريف - وهو موقع لو تعلمون رفيع الشأن- إلا رضا الله ورفعة الوطن، فيتركون بصمات باقية تبقى بعد رحيلهم علامات مضيئة على طريق أكبر مؤسسة إسلامية سنية فى عالمنا المعاصر، وأتذكر الآن عندما أوفدنى الرئيس الراحل مبارك إلى الأمام جاد الحق شيخ الأزهر الشريف حينذاك لكى أبلغه برجاء من الرئيس بعدم نشر بيان للأزهر يهاجم فيه حالة التردى فى الإعلام المصرى والإسفاف فى بعض برامج التليفزيون، وذلك بعد اتصال هاتفى بين الرئيس والإمام اقترح فيه الرئيس الراحل إيفادى لزيارة الإمام فى مبنى المشيخة، وشرح وجهة نظر الرئيس فى الآثار السلبية لمثل تلك التعليقات التى تثير زوبعة مؤقتة، بينما الأمر يحتاج إلى تأصيل نظرى وتربية دينية مازلنا نفتقدهما حتى الآن، وجلست مع الإمام فى مكتبه فقد كان يعرفنى معرفة شخصية قديمة واحتسيت معه قدحًا من الشاى وبدا لى أن الإمام قد اقتنع بوجهة نظر مؤسسة الرئاسة فيما أوفدت إليه بشأنه، وظل صامتًا وهادئًا وحكى لى مرة أخرى قصة هند التى تزوجت الحجاج بن يوسف الثقفى، ثم طلقت منه وتزوجت خليفة المسلمين، وهى قصة مليئة بالعبر والمفارقات من قصص التاريخ الإسلامى الحافل، وظننت أن الإمام قد اقتنع بما رأته الدولة، ولذلك قلت له عندما كنت أصافحه منصرفًا يا فضيلة الإمام أشكرك على التجاوب مع هدف هذه الزيارة الخاصة، وما تضمنته الرسالة الشفهية للرئيس مبارك، فقال لى عبارة واحدة وهو يقبلنى بعد مصافحتى قال (الرئيس هو ولى الأمر له ما يراه، ولكن للأزهر أيضًا ما يراه من خلال تراثه الكبير وعلمائه العظام وحرصهم على سلامة الدعوة ونقاء المجتمع) وأشهد أن الرئيس عندما عدت إليه وأبلغته ما جرى أبدى إعجابًا بالشيخ وشجاعته وصراحته ووضوح الرؤية لديه، وعلى المستوى الشخصى والعلاقة الإنسانية بينى وبين ذلك الإمام الراحل شديد المراس الذى يتميز بصلابة فى الحق وهو جاد الحق! فلقد كان عقد قران ابنتى الكبرى متزامنًا مع الأسبوع الثانى من شهر يناير عام 1995 وكان من المقرر أن يعقده الإمام الزاهد أيضًا الدكتور محمد سيد طنطاوى الذى كان مفتيًا للديار المصرية حينذاك، ولكن جاءته دعوة مشتركة له مع القس الراحل صموئيل حبيب فى مهمة رعوية لتكريس مظاهر الوحدة الوطنية بين المسلمين وأشقائهم المسيحيين بالخارج فى إطار الجماعة المصرية، فأسقط فى يدى يومها وكنت قد رتبت كل شىء، ولم يبق إلا يومان على عقد القران، فلما بلغ الإمام الراحل المأزق الذى وضعت فيه، عندما أبلغه به وزير الأوقاف المتألق وقتها الدكتور محمد على محجوب، فوجئت باتصال هاتفى من الإمام جاد الحق يقول لى فيه نصًا (علمت بأن عقد قران ابنتنا مستحق فى الحادى عشر من هذا الشهر فهل يرضى والد العروس أن يعقد القران شيخ الأزهر بنفسه؟) وأصابنى شعور مزدوج من الدهشة والفرح فقلت له (يا فضيلة الإمام هذا تشريف لا نتطلع إليه ولا نحلم به) ولكن ذلك الإمام المتواضع أصر على موقفه وحضر إلى منزلى وعقد القران، وأصبح علامة مضيئة فى حياتى العائلية وطوق عنقى بجميل لا أنساه أبدًا، وقد كان الرجل بسيطًا فى حياته يسكن شقة فى الدور الرابع دون مصعد وقد حاول الشيخ الشعراوى شراء شقة سكنية له تليق بمكانة شيخ الأزهر ولكن الإمام جاد الحق رفض فى إباء قانعًا بما هو فيه من حياة بسيطة وهو الذى تولى المناصب الإسلامية الثلاثة الكبرى فى مصر وهى الإفتاء ووزارة الأوقاف ومشيخة الأزهر، وأتذكر الآن أن شكوى كيدية وردت إلى الرئيس الراحل مبارك تقلل من شأن الإمام جاد الحق فردها الرئيس لى فى انفعال، وقال حتى شيخ الأزهر المتواضع الزاهد لايعجب الذين يتكابرون على الإسلام والمسلمين، وأضاف إن ثقتى فى الإمام هى ثقتى فى الأزهر الشريف الذى حافظ على الدعوة الإسلامية لأكثر من ألف عام ووضع التراث الإسلامى فى مكانه اللائق فكرًا إنسانيًا وثقافة روحية لا تنضب أبدًا .. رحم الله الإمام جاد الحق وسائر أقرانه من حفظة كتاب الله علماء العصر وفقهاء الدين الذين برحيلهم تطوى صفحات ناصعة من تاريخ مشيخة الأزهر الشريف ودورها الراسخ فى إبراز مقاصد الشريعة والدعوة إلى صحيح الإسلام والابتعاد عن الغلو والتطرف والإيمان العميق بوسطية الإسلام.