بقلم:مصطفى الفقي
لاحظت، وغيرى كثيرون، أن خصوبة الخيال تكون أحيانًا نقمة بقدر ماهى نعمة، فالخيال الواسع يفتح آفاقًا لتوقعاتٍ قد لا تحدث واحتمالاتٍ لا تتحقق ويظل صاحبه يعانى وكأنه يعيش مشكلته عدة مرات، بل ويتنفس العقد التى تسيطر عليه والهواجس التى تحيط به، لذلك فإن واقعية التفكير تبدو هنا أفضل تأثيرًا وأكثر رحمة، فالطفل الصغير لديه شجاعة الجاهل فقد يضع أصابعه بين أسلاك الكهرباء أو يمد يده على مشروب شديد السخونة وهو لا يقدر النتائج، وعندما يمر بالتجربة الأولى تبدو الأمور بالنسبة له كاشفة لتجربة منشئة عاش عليها وتمرس بها منذ بداية حياته
لذلك فإن الخوف والترقب والقلق هى كلها من نتاج الخيال الذى يصور لصاحبه السيناريو الأسوأ ويتوقع له أصعب الظروف، ومن أسف أننا فى هذه المنطقة من العالم نعانى من فقر الخيال وعدم القدرة على استكمال التصورات كما يريدها من يتطلعون إليها ويبحثون عنها، ففى عام ١٩٦٧ وقف الخيال المصرى عند احتمال الانتصار ولم يتطرق مسبقًا إلى عاصفة الهزيمة والانكسار، فكانت النتيجة هى تلك التى نعانى منها حتى اليوم على أرض الواقع وفوق خريطة المنطقة.
ولذلك يرى البعض أن المخاوف الكبيرة وتجسيم النتائج السلبية هى كلها نوع من الاحتياط الواجب الذى يعصم صاحبه من الأحلام الوردية على حساب الصدمات المفاجئة والخسائر الكبرى، ولقد لاحظت أن الأيديولوجيات المؤثرة فى التاريخ البشرى قد اعتمدت إلى حد كبير على الخيال، فالحركة الصهيونية التى تعانى المنطقة من نتائج سياساتها منذ ميلادها هى ابنة الخيال الذى تكون من رؤية تيودور هيرتزل ورفاقه فى مؤتمر بازل بسويسرا عام ١٨٩٧ والذى قال فيه نصًا إن وطنًا قوميًا لليهود فى فلسطين سوف يكتمل بناؤه بعد نصف قرن.
وهو ما حدث بالفعل، أى أن الخيال الواسع والرؤية البعيدة ليست خطئًا دائمًا ولكنها طموح يشد أصحابه نحو الغايات الكبرى والأهداف التى يلتقى حولها أصحابها عن إيمان راسخ وحماس شديد، بل إن دعوات الإسلام السياسى فى نسخها المتكررة وبرامجها المتعددة هى أيضًا ابنة للخيال البعيد، وقد اعتمد عليه أصحاب ذلك الخيال الذين يمتلكون الرؤية بغض النظر عن قبولنا نحن لها من عدمه، لذلك فإن صاحب الخيال الواسع يبدو قلقًا على أفكاره حريصًا على تحقيق ما دار فى خياله.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الاكتشافات الكبرى والأفكار الملهمة تبدو فى مجملها نتاجا طبيعيا لشطحات خيال أو تأملات تبدو فى وقتها وكأنها قفزات نحو المستقبل أو هروب إليه، ولكن مسار الأحداث يثبت بعد ذلك سلامة التوجه والقدرة الإيجابية على الاختيار.. إننى أريد أن أسجل من هذه السطور حقيقة مؤداها أن البشر فى النهاية هم صناعة خيال ونتاج رؤية ولا يمكن أن نتصور أن الإنسان صنيعة الواقع وحده، ذلك أن خصوبة الخيال وثراء الرؤية هى مفاتيح المستقبل وأضواء الطريق إلى غدٍ مشرق مهما تعقدت الظروف أو تبدلت الأحوال.