الإسلام والعلمانية «تركيا» نموذجًا

الإسلام والعلمانية.. «تركيا» نموذجًا

الإسلام والعلمانية.. «تركيا» نموذجًا

 العرب اليوم -

الإسلام والعلمانية «تركيا» نموذجًا

مصطفي الفقي

أصبحت كلمة «العلمانية» كلمة كريهة لدى كثير من المسلمين والعرب الذين ينظرون إليها باعتبارها عدوًا أصيلًا ونقيضًا مباشرًا للأديان، خصوصًا «الإسلام»، بل يصل الحد بالبعض إلى اعتبارها مرادفًا سياسيًا للإلحاد الدينى، والكلمة المظلومة هى من ذلك كله «براء» لأنها فى أبسط معانيها تطبيق للمقولة المقدسة «دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر»، وقد اكتسبت هذه الكلمة معانى واضحة فى الفكر السياسى والأدب العالمى، إذ إنها تعنى فى بساطة أن القرار السياسى لا يصدر من منطلق دينى ولا يتعمّد التعارض معه أيضًا، فهو محكوم فى النهاية بالمصلحة العليا للبلاد، بل إن التاريخ المصرى الحديث يقف أمام كلمة «العلمانية» مرتين، حيث يقترب المسرح السياسى منها فى عصر مؤسس الدولة المدنية الحديثة فى «مصر» «محمد على باشا» الذى خرج من بين يدى علماء الدين ووجهاء الوطن ليغدر بالجميع فينفى السيد «عمر مكرم» إلى «دمياط»، ويقوم بـ«مذبحة القلعة» الشهيرة ويتخلص من التأثير الفعلى لـ«الأزهر» ورجال الدين، ولكنه يستبقى فقط المظهر العام باعتباره حاكمًا مسلمًا لدولة يدين معظم سكانها بـ«الإسلام» فيمارس «الباشا» الطقوس الدينية والمظاهر الشرعية فى الاحتفالات الرسمية، بل يؤدى فريضة «الحج» فى موكب شهير يليق بوالى «مصر»، ولكنه يتصرف فى سياسته الخارجية بذكاء وفطنة واضحين مع فهم لروح عصره، وتمتد إمبراطوريته من «هضبة الأناضول» و«سواحل المتوسط» و«عموم الشام» و«الحجاز» وصولًا إلى «منابع النيل» و«موانى شرق أفريقيا» تحت مظلة الدولة المصرية، دون استخدام للعنصر الدينى فى فتوحاته أو إنجازاته، وعندما قاد «جمال عبدالناصر» ثورته وأنهى حكم «الأسرة العلوية» فإنه توجه نحو سياستين «خارجية وداخلية» تقتربان من مفهوم «العلمانية» بمعناها الحديث، فقد ألغى كثيرًا من المظاهر الدينية فى القضاء المصرى، فحل «المحاكم الشرعية» وقام بتصفية «الأوقاف الخيرية»، ولكنه أنشأ فى الوقت ذاته «إذاعة القرآن الكريم» التى لا تزال مؤثرة حتى اليوم ثم عمد بعد ذلك ــ بنية حسنة ورغبة صادقة ـ إلى إعادة تنظيم «الأزهر الشريف» بحجة إدخال العلوم الحديثة إليه وتخريج كوادر من الأطباء والمهندسين والمعلمين وغيرهم، ممن يمسكون بمفاتيح العلوم الشرعية فى يد وأدوات العلوم العصرية فى يد أخرى، فلقد كان «عبدالناصر» يتصور أنه سوف يوفد الدعاة من خريجى «الأزهر» ــ وهم فى الوقت ذاته يحملون الدرجات العلمية فى الطب والهندسة والزراعة وغيرهاـ ليكونوا سفراء «أزهر الإسلام» فى «القارة الأفريقية»، على غرار الحملات التبشيرية لبعض «الكنائس المسيحية» فى القرنين التاسع عشر والعشرين، كما احتكم «عبدالناصر» فى سياسته الخارجية إلى روح «علمانية» خالصة، فأيد وجهة النظر «الهندية» فى مواجهة «باكستان الإسلامية» حول مشكلة «كشمير»، كما دعم وجهة نظر الأسقف «مكاريوس» زعيم القبارصة اليونانيين فى مواجهة «تركيا» إحدى الدول الإسلامية ومركز الخلافة الأخيرة فى التاريخ الإسلامى، ورفض فكرة «الأحلاف الإسلامية» بشدة ومضى فى طريقه لبناء دولة لا تعارض «الإسلام» ولكنها لا تمضى بالضرورة وفقًا لنصوص شريعته، وربما كانت المواجهة الدامية بينه وبين «الإخوان المسلمين» هى أحد العوامل الخلفية التى شكلت توجهات «زعيم الناصرية»، وواقع الأمر أن موقف «محمد على» فى إمبراطوريته التوسعية و«جمال عبدالناصر» فى امتداداته القومية، لم يعمد أى منهما للوصول إلى تطبيق لفلسفة مبدأ «العلمانية» باعتبارها طرحًا حديثًا للفكر السياسى الغربى بعد نجاح حركة الإصلاح الدينى والثورة على كثير من نفوذ «الكنيسة» مع نهاية العصور الوسطى وميلاد حركة النهضة «الرنيسانس» فأصبح تعبير SECULAR أو تعبير «اللائكية» يمثلان تلك الكلمة الشهيرة التى قامت عليها الدولة الحديثة فى «أوروبا» المعاصرة، فإذا انتقلنا إلى النموذج التركى لدولة إسلامية فى المخبر والمظهر فإننا سوف نجد أن الغازى «مصطفى كمال أتاتورك» قد دق معاول الهدم فى الدولة الدينية المرتبطة بالسلطنة العثمانية، واستطاع أن يصل بـ«تركيا الحديثة» إلى تحولات جذرية فى السياسة والحكم والمؤسسات الدينية والمجتمع المدنى وما زالت «تركيا» ــ بغض النظر عن بعض الملاحظات السلبية فى السنوات الأخيرة ــ تبدو دولة «إسلامية» فى المظهر «علمانية» فى المخبر والجوهر، ومازلت أتذكر أن الرئيس التركى الراحل «تورجوت أوزال» قرر هو وزوجته زيارة الأماكن المقدسة و«أداء العمرة» وأبرزت الصحف التركية صورهما هناك، وعندئذ ثارت الاحتجاجات القوية على مستوى السياسة والمجتمع، باعتبار أن ما جرى يمثل خروجًا من أكبر مسؤول فى البلاد على مبادئ «أتاتورك» مع خرق لروح «العلمانية» وشخصية الدولة الحديثة، وقد اضطر «أوزال» بعد عودته إلى أن يذهب هو وقرينته إلى أحد الشواطئ وتلتقط لهما صور بلباس البحر «المايوه»، فى محاولة لإحداث نوع من التوازن فى صورة زعيم الأتراك الذى يجلس على مقعد «مصطفى كمال أتاتورك» ويمضى مع قواته المسلحة حارسًا لمبادئه، وعندما وصل حزب «الرفاه» الإسلامى إلى الحكم برئاسة «نجم الدين أربكان» لم يصمد حكمه إلا لفترة قصيرة، بسبب ضغوط القوات المسلحة التركية ذات التوجه العلمانى باعتبارها الحارس الأمين على مبادئ «أتاتورك»، وعندما عاد الإسلاميون إلى الحكم بحزب «العدالة والتنمية» فإن «رجب طيب أردوغان» قد أحدث انقلابًا كبيرًا باسم «الإسلام» وأبرز دعمه الواضح لجماعة «الإخوان المسلمين» وارتباطه بالتنظيم العالمى لها، حتى أصبح مسؤولًا مباشرًا عن تدهور العلاقات مع «مصر» بعد ثورة 30 يونيو 2013، ومازال يضمر العداء للحكم فى «القاهرة» متذرعًا بأسباب سياسية فى عباءة دينية، حيث لا تخلو بلاده من تناقض بين استضافتها لمؤتمرات «الإخوان المسلمين» المعادية للحكم فى «القاهرة» والطامعة فى اقتطاع أجزاء من «سوريا» الجريحة والمتعاونة مع حكومات أخرى فى المنطقة لخلق شبكة ضاغطة على الدولة المصرية فى ظروفها الحالية، بينما يسمح ذلك الحاكم الذى هدم دور المؤسسة العسكرية فى بلاده بل زج ببعض قادتها فى السجون بدعوى محاولة انقلاب فاشل أو فساد مالى وإدارى، يسمح بممارسة حرفة «البغاء» فى بلاده، وهو أمر عدلت عنه كثير من الدول حتى غير الإسلامية، كما يقيم علاقات استراتيجية خفية مع «إسرائيل» ويحتفظ بعضوية «حلف الأطلنطى» مع استجداء دائم لعضوية «الاتحاد الأوروبى»، وبرغم ذلك كله فإننى لا أخفى إعجابى بالنموذج التركى الذى صنع دولة عصرية شبه أوروبية حديثة تحت رايات «الإسلام» المعتدل، مع إعمال مبدأ الفصل بين «الدين» و«الدولة»، أى بين «السياسة» و«الإسلام» دون اعتراض على اشتباك الدين مع المجتمع، من أجل رفع مستوى الأخلاق وامتصاص صحيح الدين فى العقل والروح، مع احترامه ووضعه فى المكان اللائق ساميًا عاليًا لا يهبط إلى مهاترات السياسة وألاعيب السياسيين، ليتنا نصل إلى شىء من ذلك.. وعندئذ نكون دولة وطنية ديمقراطية بامتياز!

arabstoday

GMT 04:01 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 03:56 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 03:54 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 03:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 03:47 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 03:42 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 03:39 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 03:37 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

فلسطين وإسرائيل في وستمنستر

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الإسلام والعلمانية «تركيا» نموذجًا الإسلام والعلمانية «تركيا» نموذجًا



GMT 13:32 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 العرب اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 20:44 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
 العرب اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 03:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 04:01 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 20:58 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الأميركي يقصف مواقع عسكرية في صنعاء

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

موسكو تسيطر على قرية بمنطقة أساسية في شرق أوكرانيا

GMT 14:19 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إلغاء إطلاق أقمار "MicroGEO" الصناعية فى اللحظة الأخيرة

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

وفاة جورج إيستام الفائز بكأس العالم مع إنجلترا

GMT 17:29 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

سائق يدهس شرطيا في لبنان

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إصابات بالاختناق خلال اقتحام الاحتلال قصرة جنوبي نابلس
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab