بقلم: آمال مدللي
الكارثة التي تجنبتها الولاياتُ المتحدة منذ أيامٍ عندما نجَا الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب من محاولة اغتيال في ولاية بنسلفانيا، أثناء حفلٍ انتخابي، أيقظتِ البلادَ إلى خطورة الخطاب السياسي المتطرف الذي كان سائداً، والذي كاد يأخذ البلادَ إلى المجهول. الاصطفافُ والانقسامُ والاحتقانُ السياسي، ووفرة السلاحِ في أيدي الأميركيين، وقوة وسائلِ التواصل الاجتماعي، خصوصاً الأخبار الكاذبة والخطاب السياسي المتطرف؛ مثَّلت وصفة لانفجار ينتظر عودَ كبريت.
فجأة بعد ما حدث للرئيس ترمب أدرك الجمعُ أنَّ للكلمات تبعاتٍ وأنَّ الكلمة تكون أحياناً أدمى من الرصاصة. لحظةَ نجاتِه أظهر الرئيس ترمب عبقريتَه السياسية والإعلامية وكيفيةَ اقتناصِ الفرصة التاريخية: رفع قبضتَه في الهواء والدماءُ تسيل على وجهِه وردَّد «قاتلوا، قاتلوا». خرج من المهرجان الانتخابي ضحيةً وبطلاً في الوقت نفسه. أصبحت شجاعتُه في كيفية التعامل مع محاولة الاغتيال موقعَ إعجاب، وإحالته رمزاً، حيث اعتبر مسؤولٌ سابقٌ في إدارته أنَّ صورتَه أصبحت «تمثل الرُّوحَ الأميركية حول العالم». وأصبح لمؤيديه، الشهيدَ الحي. قال أحدُهم على منصة «إكس»: «الرئيس ترمب مستعدٌ للموت من أجلنا، من أجل هذه الحركة». وانتبه الجميعُ إلى خطورة اللحظة. أميركا في خطر الانزلاق إلى المجهول. أسرع الجميع للملمة الخطاب السياسي وتصحيح الوجهة قبل فوات الأوان، خصوصاً أنَّ وزارة الأمن القومي تحذّر منذ 2021 من خطر المتطرفين المحليين، وخاصة بعد الهجوم على الكونغرس، وفي سبتمبر (أيلول) الماضي حذَّرت من خطر مرتفع.
الديمقراطيون الذين وضعهم الهجوم في موقع الدفاع، خصوصاً أنهم كانوا خلال الأسبوع يحذرون من خطر ترمب على الديمقراطية في أميركا، اجتمعوا على إدانة ما حدث وإدانة العنف السياسي. الرئيس الأميركي جوزف بايدن خرج ليقول: لن نمشي في هذه الطريق ولن ننزلقَ إلى العنف. «لا مكان في أميركا لهذا النوع من العنف. نقطة. لا يوجد استثناء». ودعا الرئيس إلى الوحدة، وإلى خفض حرارة الخطاب السياسي. الرئيس السابق باراك أوباما دعا إلى التزام الاحترام والحضارة في السياسة. رئيس مجلس النواب حكيم جيفريز، ورئيس الأغلبية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، أدانا العنفَ وما حدث.
قيادة الحزب الجمهوري حمَّلت غصنَ الزيتون أيضاً ولاقت الديمقراطيين في الدعوة إلى الوحدة ونبذ الخطاب المتطرف. رئيس مجلس النواب، مايك جونسون، كرَّر ما قاله بايدن: «لا يمكن أن نستمر هكذا»، يجب أن نخفض الخطابَ لأنه مرتفع جداً. لا يوجد رئيس منذ الرئيس أبراهام لينكولن جرى ذمُّه ومحاكمتُه مثل ترمب. عندما تقول إن «انتخابه يهدد الديمقراطية فإن هذا يسخن الجو»، وأشار، وهو ما قاله الكثير من الجمهوريين، إلى أن دعوة الرئيس بايدن لمؤيديه قبل أيام لجعل ترمب «مركز الهدف»، مع أنه لم يكن يعني ما فسره البعض، هو «نوع الخطاب الذي يجب أن نسميه»، ودعا إلى تخفيض حرارة الخطاب السياسي... لكن لم يلتزم جميع الجمهوريين في الكونغرس هذا النداءَ ورأينا بعض الشيوخ والنواب يلقون باللوم على الديمقراطيين فيما حدث. حتى إن ابن الرئيس ترمب كتبَ على منصة «إكس» أنه لن ينسى وصفَ الديمقراطيين لترمب بـ«هتلر» كما قال.
الخوف من أن يعمد مؤيدو الرئيس ترمب إلى الرد والانتقام كان حقيقياً. من هنا لوحظ إسراع الجميع من مسؤولين إلى سياسيين، وخصوصاً وسائل الإعلام، إلى الإسراع إلى تطمين الأميركيين بأن ترمب بخير وآمن.
الصحف الأميركية الكبرى دعت البلاد إلى الانتباه لخطر التطرف والخطاب السياسي المغالي على الديمقراطية. وقرأنا تصريحات كانت تطلقها الولايات المتحدة على انتخابات في دول تعاني من وباء العنف السياسي حول العالم. الرئيس بايدن قال إنه في أميركا «نحل خلافاتنا في صناديق الاقتراع وليس عبر الرصاص».
«النيويورك تايمز» رأت أنه «لا ينبغي معارضة أجندة الرئيس ترمب بالعنف، كما لا ينبغي تنفيذ هذه الأجندة بالعنف». وقالت إن «التحدي أمام الأميركيين الآن هو منع هذه اللحظة من أن تصبح مقدمة لمأساة أكبر». نرى مؤشرات أن الجميع مدرك لهذا التحدي اليوم. خطاب الرئيس بايدن في المكتب البيضاوي، الثاني بعد محاولة اغتيال الرئيس ترمب، وإعلان الرئيس ترمب أنه سيعيد كتابة خطابه بالكامل لإلقائه في مؤتمر الحزب الجمهوري هذا الأسبوع في ميلووكي، للتركيز على الوحدة هي أبرز هذه المؤشرات الجيدة. الرئيس ترمب قال في مقابلة مع «الواشنطن ايكزامينر» إنه كان سيركز خطابه قبل محاولة الاغتيال على سياسات بايدن، ولكنه الآن سيلقي خطاباً مختلفاً، ويريد استغلال هذه «الفرصة التاريخية لتوحيد البلاد». وقال إن «هذه فرصة لتوحيد البلاد، حتى لتوحيد العالم».
القضاء أيضاً قال كلمته التي يمكنها أن تساعد البلاد على تخفيف الحرارة السياسية والكلامية، عندما رفض القاضي قضية الوثائق السرية ضد ترمب. تقف الولايات المتحدة اليوم على عتبة سياسية جديدة يمكنها أن تحدد مستقبل الحملة الانتخابية والبلاد. فهل يلتزم السياسيون العهد الذي يدعون إليه ويعيدون الحياة السياسية إلى ما ميّز أميركا في السابق، من احترام الرأي الآخر، والانتقال السلمي للسلطة، والحفاظ على ديمقراطية، لطالما كانت المثال للعالم و«المدينة على الجبل»، أم يعودون إلى الطريق الخطيرة التي كانت البلاد عليها مؤخراً؟ أميركا أمام اختبار كبير.