مضت تسعة أشهر على تخرجي من الجامعة، ولا تزال الذكرى الجامعية حية بتفاصيلها. رنين لحن القصيدة في أذني بعد انتهاء محاضرة الشعر، كيف بدا لي أن الموسيقى المحتبسة هي التي تحركني بينما أمضي الدقائق الحرة بالمشي في الساحة الجامعية. كانت هذه عادتي بين المحاضرات أيام انكسار أشعة الشمس في مثل هذا الوقت من السنة.
وكانت أفكاري تسير معي على الإيقاع الشعري أو على إيقاع من نوع آخر أكثر ثورية، على إيقاع الأسئلة التي يقدحها أستاذ يعلمنا أن نقرأ ما بين السطور، يعلمنا أن لا نجيب عن الأسئلة بل أن نسألها. أعتقد أن مصادفة مثل هؤلاء الأساتذة كفيل بأن ينقل التجربة الأكاديمية لمستوى جديد من الحرية والاستقلال الفكري.
المشرفة
إلا أن هذه المساحات الحرة التي يملك الأستاذ والأستاذة إمكانية خلقها في الصف كانت محدودة، وأحياناً مُقاطَعة. تماماً كما يُقاطع سلام المشي في الساحة بهتاف مشرفات الأمن وأوامرهن "يا بنت شيلي السماعات".
كنّ يجبن المباني والساحات بحثاً عما يمكن اعتباره مخالفة، فأحمد الله أنني أستمتع بنوع داخلي من الموسيقى حالياً، وأتساءل مرة أخرى عن مسببات إصدار لائحة تتضمن منع ارتداء سماعات الصوت، التي اكتشفت لاحقاً أن جامعة سعودية أخرى تمنعها في أقسام الطالبات أيضاً.
من الممكن تشبيه مشرفات الأمن بالشرطة الدينية الرسمية، أو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أن مهامهن تعتمد بصورة أساسية على إرشادات المعيدة واللوائح التي تصدرها وتختلف من كلية لأخرى. هذه اللوائح الغريبة ليست إلا إضافات جانبية على روتين الرقابة والوصاية اليومي، الذي تعيشه الجامعية السعودية بتنويعات مختلفة ومتفاوتة، حتى ضمن الجامعة نفسها، لاختلاف الإرشادات الإدارية.
مقارنة بجهاز الهيئة، لا تحظى الرقابة في الجامعات النسائية بالقدر نفسه من الاهتمام واللغط الشعبي، مع ذلك أثارت وفاة الطالبة آمنة باوزير في جامعة الملك سعود احتاجاً على موقع تويتر. آمنة تعرضت لصدمة قلبية، وصمدت لساعتين قبل أن تفارق الحياة قبل أن يصل إليها المسعفون الذين منعتهم إدارة الجامعة من الدخول.
احتجاز حتى الظهيرة
لمجرد الدخول والخروج من مبنى كلية الآداب، جامعة الملك فيصل، يجب المرور بعدة تعقيدات، بدءاً من ملء أوراق ثبوتية باسم السائق الذي يقلني منها ولها، تذيل طبعاً بتوقيع الأب أو "ولي الأمر"، ثم يتم تزويدي ببطاقة تسمح بخروجي حين إبرازها لضابط الأمن عند مركز التفتيش على المدخل.
أُمنع من اصطحاب إحدى زميلاتي في السيارة أو المغادرة معها، وحين نفعل نحبس أنفاسنا عند مركز التفتيش. ولدى السؤال عن هوية المرأة الأخرى نجيب بأنها شقيقتي. الأسئلة لا تتوقف هنا فقد يطلب إثبات الهوية. كما يمنع الخروج قبل التاسعة صباحاً، وفوجئت بأن مدة الاحتجاز في جامعات أخرى تصل إلى الحادية عشرة والنصف أو الثانية عشرة والنصف، كما تؤكد ملاك وهي طالبة في جامعة الإمام محمد بن سعود.
أما شهد، وهي طالبة في جامعة للتخصصات الصحية في الرياض، فيمكنها الخروج قبل الظهر بعد الحصول على ورقة موقعة من شؤون الطالبات.
ومن الممكن اعتبار هذا أقل تشدداً في الرقابة على الأقسام النسائية، إذ لا تتعرض الطالبات لتفتيش الهواتف النقالة، ولا توجد قوانين تحد من الحرية الشخصية أكثر من التقيد بشروط الزي. وبالإضافة إلى منع الخروج، يمنع دخول أي من الزائرات، مع أن خالد طالب في الجامعة نفسها، يؤكد أن لا مشكلة في دخول الزوار إلى الجامعة في قسم الطلاب.
منطق المنظومة: "سد الذرائع"
حين تسأل عن أسباب هذا الاحتجاز، تجيب المشرفة: "كيف يعلم ولي الأمر أنك خرجت من الجامعة منذ الصباح" وستستطرد وتستثنيك معتذرة من فئة سيئات السمعة القادرات على مثل هذه الأفعال المخزية، كأن يفعلن بوقتهن وأنفسهن ما يحلو لهن ببساطة، لكن لا بد أن تُطبق القوانين على الجميع.
الهدف من هذه القوانين هو أن لا تخرج السعودية عن إطار معين للتنقل، وأن تكون كل دقائق صباحها مرصودة ومُدخلة ضمن المنظومة الرقابية الكبيرة، التي تقوم على منع الفرص أو أي هامش من الحرية في التحرك والمواصلات.
المرأة مقيدة ببساطة لأنها حسب قوانين الفيزياء قادرة على "الحرام"، ولا حاجة حتى للانتظار لتفعله لمعاملتها كجانية، وبعكس التصور السينمائي والاستشراقي، حيث مشهد الجلد والرجم للمرأة حاضر في تصورات العالم عن دول كإيران والسعودية، فهذه المنظومات الرقابية لا تتمركز حول العقوبة بعد تحقق هذا الإثم بل حول الفرصة.
الضحية الأولى لهذه الفلسفة هي حرية المرأة، فلتقليل الفرص، وبينما يسمح للرجل بالحركة ضمن الأماكن الرجالية بعيداً عن "الاختلاط"، يتم تقييد حركة النساء ومواصلاتهن، بصورة شبه تامة، حتى أن شهادات من الرياض تفيد بأن سيارات الأجرة في حال كان السائق سعودياً خصوصاً، قد تتعرض للإيقاف والاستجواب.
عقدة البابارازي
مع أنني لست ما يمكن اعتباره مثالاً للطالبة الجانحة، مع ذلك وقعت ثلاثة تعهدات أو أكثر خلال سنين الدراسة. تقع كلها في نطاق ما اسميه "عقدة البابارازي"، وهي قوانين تمنع تصوير المرافق الجامعية أو التصوير لأي جسم داخل الجامعة، أو حتى أحياناً إحضار هاتف نقال يمكنه التقاط الصور.
باختصار الطالبة في الكليات التي تفرض مثل هذه القوانين تعامل وكأنها البابارازي، أو صحافي المشاهير التلصصي الكامن وراء الشجيرات وخلف النافذة.
وهكذا كان تعهدي الأول بسبب إحضار هاتف نقال مزود بكاميرا في أول سنة، تمت مصادرته، والثاني بسبب إحضار جهاز الآيباد المزود بكاميرا وإخراجه من الحقيبة، والثالث كان بسبب تصوير إعلان معلّق خلال السنة الماضية.
ملاك تعرضت لمواقف شبيهة، إذ ضُبطت متلبسة بينما كانت تصور آيس كريم داخل الكلية، إلا أن المشرفة لم تكتف بإيقافها بل بتفتيش جميع الصور في الهاتف الملتقطة خارج الجامعة سائلة عن هوية الأشخاص فيها. وبعد توقيع ملاك تعهداً اتصلت المشرفة بوالدتها لتبلغها عن قلقها لأن ابنتها ترتدي لباساً قصيراً في إحدى الصور.
أما سمر (اسم مستعار)، فبعد دخولها من البوابة مباشرة، بادرتها المشرفة: "لو سمحت الجوال"، وفتشت الصور للتأكد من أنها لم تلتقط صوراً للساحة، شاهدت سمر المشهد يتكرر الأحد الماضي.
فمن الروتيني في مثل هذه الكليات أن يتم تفتيش الهاتف، أحياناً بلا مبررات على الإطلاق. عهد مثلاً كانت جالسة في الساحة، حين فاجأتها المشرفة: "جالسة تدخنين صح؟"، أجابت عهد بالنفي، طلبت المشرفة أن تعطيها حقيبتها للتفتيش، لم تجد المشرفة أي شيء في الحقيبة يثبت هذا الافتراض. بعدها ومن دون أي مسببات أمرتها بتسليم هاتفها، رفضت عهد وهددت بالاتصال بوالدها فتركتها المشرفة أخيراً. كما يتم تفتيش أي أكياس قماشية أو بلاستيكية عند المدخل.
"غائبة لأنك لم تلتزمي بالزي"
التقيد بشروط الزي (تنورة طويلة وكم كامل أو شبه كامل) والعباءة وحتى غطاء الوجه ليس كافياً في بعض الجامعات، فملاك تتعرض للإيقاف في كليتها في حال ارتدائها عباءة ملونة أو مطرزة. في حين لا يحدث ذلك في كلية سمر، إذ اضطرت لارتداء عباءة رأس (العباءة التقليدية) لتجنب مجلس تأديبي.
ورغم أن لإدارة الكلية أساليب تأديبية كالتعهدات والمجالس التأديبية وتنفيذها يقع ضمن صلاحيات المشرفات، فإن بعض أستاذات المواد الدراسية يستخدمن الخصم من الدرجات والحضور كعقوبة على مخالفة الزي، كما حدث لملاك وسمر.
فبينما خصمت الأستاذة من درجات ملاك، أثناء أخذ حضور الطالبات حسب القائمة، حين أجابت سمر على اسمها بنعم، ردت الأستاذة بأنها ستعتبرها غائبة لمخالفة الزي.
مانيا صيد "البويات" والعناق الزوجي
كان مما جاء في لائحة سماعات الأذن، التحذير من قصات الشعر القصيرة. أتذكر كيف استوقفتني مشرفة لطيفة للدردشة، سبق أن تبادلنا أطراف الحديث، لكن التساؤل هذه المرة كان "لمَ قصصتِ شعرك"؟ أجبت حينها بصراحة وأنا أبادل النظرات المتسائلة بأخرى مثلها "لا أدري.. لم يقص الناس شعرهم عادةً". تفرعت هذه الأسئلة إلى ثرثرة ودية وقبل أن أذهب إلى محاضرتي قالت لي هذه المشرفة هامسة: "لا تأتي دون وضع المكياج بعد الآن، حتى لا يساء فهمك". ابتسمت وقد فهمت أخيراً سر الأسئلة ومضيت، لعلي كنت محظوظة حينها في أن قصة الشعر تلك لم تضف تعهداً جديداً أو حتى مجلساً تأديبياً ربما، بعكس المخالفات الأقل حظاً.
نظرات الشك هذه جعلتني أنتبه إلى الوضع حولي، فللمرة الأولى لاحظت أن الفتيشية الجنسية، وانتهاك الخصوصية الذي يمتد للنوايا والأفكار والأذواق، لا ينتهيان عند الخارج بل يمتدان إلى داخل الحرم الجامعي حيث الميول الجنسية، بمحاولة رصد أي علامة تدل على نزعة مثلية. هذه العلامات منحازة ثقافياً بطبيعة الحال. "البويه" في الثقافة الشعبية هي المرأة التي لا تلتزم بالنمطية الأنثوية في السلوك أو اللباس، والصلة بين التوجه الجنسي المثلي مبنية على هذا الأساس، هكذا تتوهم المشرفات أنهن في رحلة صيد المثليات أو البويات وإنقاذ المجتمع الجامعي منهن.
المناطق الرمادية الثقافية تمتد أيضاً لما يعتبر اتصالاً جسدياً مقبولاً أو لا، قبل نحو عامين كنت أنتظر بجوار مكتب عميدة الكلية، التي أرسلتني المشرفة إليها بعد أن رفضت تسليمها جهاز الآيباد ليصادر. هناك مع المنتظرات، جلست طالبتان بانتظار أن تخرج صديقتهن، تبادلنا التذمر المعتاد والتهمة التي أدت بنا إلى مكتب المعيدة. القصة بدأت معهن حين أوقفتهن إحدى المشرفات بسبب ما اعتبرته "أكثر من مجرد عناق"، ويتم استجواب كل منهن بصورة فردية بعد أن تم استجواب الأولى، ولو ثبتت وجهة نظر المشرفة بعد التحقيق فإن عقوبة تهمة "الشذوذ الجنسي" تصل إلى الطرد، خصوصاً إذا لم تقف الأم في صف الطالبة.
لم أنسٓ هذه التهمة الغريبة، لذلك حين عدت قبل أشهر إلى الكلية لاستعادة هاتفي الذي صودر خلال سنتي الأولى، توجهت إلى مكتب مشرفات الأمن، فوجدت رئيسة المشرفات التي عينت قبل فترة قصيرة. أخبرتها بأنني أفكر في التقدم لوظيفة المشرفة، إلا أنني لا أعرف ما هو نطاق صلاحياتي، "لنقل إنني رأيت عناقاً، هل يتوجب علي إيقاف هاتين الطالبتين"؟ أجابت الرئيسة بالإيجاب، وأضافت إحدى المشرفات: "يعتمد على نوع العناق، هل هو عناق الزوج لزوجته مثلاً؟".
أخذت هاتفي وخرجت، مفاجأتي بوجود الهاتف بعد كل هذا الوقت لا تقارن بمفاجأتي بهذا المنطق الغريب حتى بعد كل سنين الدراسة، أن تحرم امرأة سعودية من التعليم لأنها عانقت أكثر مما يجب.
صحيح أنني لم أكن لأعتقد بالحاجة لإجراء تأديبي ولو صرحت الطالبة بميول مثلية، لكن لا علاقة لذلك بالموضوع. الفرق هنا أنني أعتقد أن زعيم داعش أبو بكر البغدادي كان ليوافقني الرأي ويرد بـ"لا بأس في ذلك" لو سألته: "يا أمير المؤمنين لنفترض أن جاريتين أطالتا العناق فما أنت فاعل؟". أعتقد أن هذا ظلمٌ ظالم لا ظلمٌ عادل.
وأعتقد أن الوقاحة في هذه المنظومة التلصصية لا تكتمل إلا بهذه الحلقة الأخيرة، التجسس يصل إلى الخيال والفكرة والهوية والتجربة الجنسية الشابة، التي لم تتشكل بعد أصلاً.
كل هذا يحدث في الحرم الأكاديمي الذي يفترض أن يكون فضاءً حراً للنمو والتعبير وفضاءً نسائياً مستقلاً للشابات السعوديات، لكنه يتحول إلى صندوق أمانات معدني تعامل الطالبات فيه كما الودائع، بلا خصوصية أو حرية أو قرار.
أرسل تعليقك